اختيار الرئس الأميركي باراك أوباما جانيت يلين لرئاسة مجلس الاحتياط الفيديرالي (المركزي)، لأول مرة منذ تأسيسه قبل مئة عام، خبر لافت لجمعيات تحسين وضع المرأة ومؤيديه، ولكن أن يختار الرئيس الأميركي شخصية يسارية تتبع المدرسة «الكينزية» في الاقتصاد، لأول مرة منذ 34 عاماً، يبقى الخبر الأبرز. وتتلمذت يلين على يدي الاقتصادي اللامع والحائز على جائزة «نوبل» جايمس توبن، الذي اصدر مؤلفات عديدة تتوسع في النظريات الاقتصادية لجون ماينرد كينز، مهندس نظرية تدخل الدولة في الاقتصادات الرأس مالية لتحفيزها في اوقات التباطؤ وكبحها في اوقات الطفرات، والعمل على تحسين توزيع الثروة بين الطبقات الاجتماعية المختلفة. ومن اشهر نظريات توبن تلك المعروفة ب «ضريبة توبن»، وتنص على ضرورة فرض ضرائب على المضاربين بالعملات الاجنبية والمستفيدين من التلاعب في الأسعار بين عملة وأخرى. ووفق توبن، فإن هذا النوع من المضاربة المالية يزعزع الثقة في العملات ويعتبر ثباتها اساساً للاستقرار الاقتصادي. وكما رأى «المعلم» توبن أن المضاربة بالعملات يمكنها زعزعة الاستقرار النقدي، رأت تلميذته يلين أن المضاربة بالمشتقات المالية، حول العالم من شأنها كذلك أن تولد أزمات. وتدرك يلين أن المصرف المركزي لا يدير السياسة الاقتصادية لجهة الانتاج، وإنما ينحصر دوره بالسياسة المالية لجهة الاستهلاك، وتحديد كمية النقد المتداولة في السوق، وتسهيل الاقتراض للمستهلكين، الذين بلغ اجمالي ديونهم 43 في المئة من كل القروض الأميركية في العام 2012. ومع زيادة السيولة وتسهيل الاقتراض، يمكن تسريع «دورة الأعمال»، وهذه تخلق وظائف وتؤدي إلى انخفاض في نسبة البطالة، وهذه واحدة من مهمات الاحتياط الفيديرالي إلا أنها في الوقت ذاته قد تؤدي إلى ارتفاع في نسبة التضخم، مع العلم ان مهمة الاحتياط الفيديرالي الثانية هي لجمه. وكان آخر الحكام اليساريين، بول فولكر، عينه الرئيس الديموقراطي السابق جيمي كارتر في العام 1979، ونجح في القضاء على التضخم الذي ترافق مع ركود في حينه أطلق عليه اسم «ستاغفلايشن». وبسبب نجاحه في القضاء على تلك المشكلة التي كانت تقض مضاجع الاقتصاديين، جدد الرئيس الجمهوري رونالد ريغان ولاية فولكر، الذي ترأس المصرف المركزي في أكثر فترة شهدت ازدهاراً وطفرة اقتصادية في الولاياتالمتحدة في الأعوام الخمسين الاخيرة. وبسبب نجاح سياسته المالية اكتسب فولكر أهمية دفعت أوباما للاستعانة بخدماته مجدداً، فعينه رئيساً لمجلس مستشاري الرئيس الاقتصاديين، وتمت المصادقة على «قانون فولكر»، الذي أجبر المصارف على زيادة كمية ودائعها المالية، ومنعها من استخدام أموال المودعين في المضاربة في سوق الأسهم. في هذا السياق، كانت يلين من أبرز المؤيدين لقانون فولكر، وبصفتها نائباً لحاكم المصرف المركزي، سعت كذلك إلى دعم قانون «دود – فرانك» الذي أُصدر في العام 2010، على عكس رغبات الحزب الجمهوري واعضائه في الكونغرس ومؤيديه من كبار المتمولين والمكتتبين في المصارف الأميركية الكبرى. ويمنع قانون «دود – فرانك» ممارسات مالية كانت سائدة، ويعتقد اقتصاديون، وخصوصاً اليساريين منهم، أنها ساهمت في الفقاعة الاقتصادية وفي الركود الكبير في خريف العام 2008، مثل تقديم قروض ميسرة لكن بفوائد عالية جداً لأشخاص تعرف المصارف انه لن يكون باستطاعتهم تسديدها. وكانت المصارف تحقق ارباحاً طائلة من هذه القروض السيئة إذ كان المصرفيون يقتطعون عمولتهم على القروض عند التوقيع، ومن ثم لا يكترثون حول مصير القروض أو المقترضين. وعارضت يلين، البالغة من العمر 67 عاماً، هذه الممارسات المالية وأيدت ضبطها بشدة، وفق ما تظهر مشاركاتها في اجتماعات مجلس حكام الاحتياط الفيديرالي وحسب اطلالتها العلنية. ويعتقد البعض انه لو قُيّد لمنافسها لاري سمرز الفوز بمنصب حاكم مجلس الاحتياط الفيديرالي، خلفاً لبن برنانكي، لكان تغاضى عن بعض التشريعات التي تهدف إلى ضبط حرية المصارف. وكان سمرز من فريق الرئيس الديموقراطي السابق بيل كلينتون، وعمل على الاطاحة بقوانين فولكر المالية، ولكنه ساهم في إعادتها تحت إشراف أوباما، على رغم اعتقاد البعض انه وافق على بعضها مرغماً أو على مضض. وكانت يلين أطلت على السياسة المالية في العام 1996 بعدما عيّنها الرئيس السابق بيل كلينتون في مجلس الاحتياط لاعتقاده انها ستساهم في تعديل مواقف الحاكم السابق اليميني آلان غرينسبان، الذي كان مولعاً بالقضاء على التضخم إلى حد انه اقترح يوماً خفضه من اثنين إلى صفر في المئة. إلا أن يلين اقترحت إبقاءه عند معدل 2 في المئة سنوياً، معتبرة أن ذلك يؤدي إلى امتصاص حجم الصدمات الاقتصادية مستقبلاً. وكانت يلين إحدى الداعمين للابقاء على برنامج طباعة التقد الذي ينتهجه المصرف المركزي حالياً، وتوقعت أن لا يرتفع مستوى التضخم على رغم ضخ المال في الأسواق، وهو توقُع يبدو أنه صائب اذ لم تتعد نسبة التضخم الأميركي واحداً في المئة على رغم شراء سندات بقيمة 85 بليون دولار شهرياً، منذ كانون الثاني (ديسمبر) 2012. وتعد يلين بأنها ستعمل على تحسين قدرة المستهلكين والاستمرار في العمل على خفض البطالة. ونظراً إلى سياساتها الماضية، يُتوقع أن تعمل على إبقاء برنامج شراء السندات وضخ السيولة في الأسواق حتى إشعار آخر. أما إنهاء هذا البرنامج، فسيكون على الأرجح تحت إشراف يلين، أو على حد تعبير برنانكي ان «هناك آخرين أيضاً ممن يمكنهم الإشراف على إنهاء هذا البرنامج».