تشكل الفترة الممتدة بين نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 وانهيار المعسكر الاشتراكي عام 1989، المرحلة الذهبية في العالم من حيث ازدهار الثقافة والعلوم والفلسفة. وهي مرحلة اقترن فيها الصراع السياسي في ما كان يعرف بالحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالي والشيوعي، بالنتاج الفكري المتمثل في تيارات فلسفية متنوعة وبأيديولوجيات شمولية وليبرالية على السواء انحكم العالم إلى مفاهيمها، في النظر والممارسة، بحيث أمكن هذه التيارات أن تحكم. أما العوالم الثلاثة فكانت: بلدان العالم الرأسمالي، وبلدان العالم الشيوعي وبلدان العالم الثالث. انتج كل عالم ثقافته وفلسفته وعلومه، وما زالت أفكار كل واحد من هذه العوالم مسجلة في التاريخ ووقائعه وكتبه، على رغم أن تحولات أساسية جرت بعد عام 1989، كان من نتائجها انحسار الثقافة الاشتراكية الشيوعية وضمور ما كان يعرف بثقافة العالم الثالث. يتطرق الكاتب الأميركي مايكل ديننغ إلى التحولات في هذه العوالم من خلال كتابه «الثقافة في عصر العوالم الثلاثة» الصادر عن سلسلة «عالم المعرفة» في الكويت. شهدت العقود الثلاثة من التطور البشري انقلابات في المفاهيم وفي العلوم والاقتصاد، وتبعها في الفكر والفلسفة. ساعد انفتاح العالم على بعضه وكسر حواجز الانغلاق التي تحققت بفعل سيطرة العولمة وتحويل العالم كله إلى قرية صغيرة، ساعد ذلك في خروج الثقافة نفسها، وفي مختلف بلدان العالم، على الخروج من قوقعة المحلية والسرديات الوطنية نحو الإطلالة على السرديات الكونية، بحيث تجاوزت الثقافة الكثير من التحليلات والنظريات التي كانت سائدة، سواء من حيث تطوير بعضها والدفع بها إلى مدى أوسع، أو بإهمال بعضها الآخر واعتبار المفاهيم التي كانت سائدة بأنها باتت خارج التاريخ ولا تصلح للتجديد أو التعديل. صارت الثقافة في كل مكان، ولم تعد ملكية خاصة بالمثقفين أو المتأدبين. الجديد اليوم، وبعد اكتشاف حقيقة أن الثقافة في كل مكان، أصبحت دراسة الثقافة ونقد الثقافة، على نحو متزايد، جزءاً مركزياً من الحياة السياسية والفكرية. وفي السنوات الأخيرة أصبح يطلق على هذه الظاهرة «الانقلاب الثقافي في الإنسانيات والعلوم الاجتماعية»، وغالباً ما يجري الربط بينه وبين نشوء الدراسات الثقافية. لا شك أن الانقلاب الثقافي الذي يشهده العالم اليوم هو تعبير عن ظاهرة انفجرت في مختلف أنحاء العالم، وإن لم تكن مصطلحاتها قد جرى الاتفاق حتى اليوم على دلالاتها. «وهذا الانقلاب الثقافي الكوني كان مرده مستويات التطور في ثقافة عولمية انبثقت من النضالات الثقافية الأيديولوجية بين العوالم الثلاثة. وهكذا فإنه حتى بعض أولئك الذين يتجاهلون كلمة «ثقافة» أو يرفضونها – إما لأسباب أيديولوجية وإما بسبب دلالاتها التي تختلف باختلاف اللغات – يبقون على رغم كل شيء، جزءاً من هذا الانقلاب الثقافي. فاختيار «العلامة» أو الأيديولوجيا» أو «الخطاب» أو «الاتصال» أو «الاستهلاك» أو «الحياة اليومية» أو «مقومات الهوية» باعتبارها الاسم الذي يطلقه المرء على المنطقة التي يدعوها الآخرون «الثقافة» هو بذاته جزء من الجدل الذي هو قوام الانقلاب الثقافي». يعزى الانقلاب الثقافي وما رافقه من دراسات في هذا المجال إلى أن الثقافة بمعناها الواسع تطورت إلى علم اجتماعي جديد «لسبب محدد هو ظهور منطقة جديدة ومستقلة من الحياة الاجتماعية»، كذلك نظراً إلى أن هذا التحول بات من السمات الرئيسية للحركات الاجتماعية التي بدأ اليسار الجديد يطلقها في العوالم الثلاثة. لقد شكلت الميديا أحد أهم مظاهر التحول الثقافي، فعلى رغم اقترانها بالدولة وبالسوق وبالمجتمع المدني.. إلا أنها، وبفضل منطق الاتصال الجماهيري تحولت إلى علم اجتماعي بعد حداثي، يحتل موقعه على رأس سائر أنواع العلوم الاجتماعية. هذا مع الإشارة إلى أن هذا الانقلاب الثقافي لم يخرج مع العولمة في مرحلتها الراهنة، بل كانت بداياته مرتبطة بأزمة الستالينية ومعها أزمة الفكر الاشتراكي، وكذلك مع التحولات التي شهدتها البلدان الرأسمالية بعد تصفية الكولونيالية وانتهاء مرحلة الاستعمار المباشر. يولي الكاتب أهمية لدور الانقلاب الثقافي العالمي على حركات اليسار الجديد التي يرى أنها تتشكل اليوم على قاعدة وجود التكنولوجيات الجديدة للمعلومات، ووضعها في خدمة النضالات اليومية للطبقات والشعوب في مختلف المجتمعات. هكذا أطلق الانقلاب الثقافي شبح السياسات الثقافية، والراديكالية الثقافية والثورة الثقافية، فباتت الثقافة في قلب الأحداث السياسية والمقاومة ضمنها وكشكل مميز من أشكالها، كما توطدت العلاقة بين الثقافة والحركات الاجتماعية. في هذا المجال، يسجل الكاتب نقداً للماركسية – اللينينية، التي ساهمت عبر نزعتها الاقتصادية في تكريس الجمود في النظرية، ومن خلال النتائج المترتبة على دوغمائيتها في إسقاط الثقافة من الحساب في وصفها واحدة من البنى الفوقية، وما تبع ذلك من إغفال للخصوصيات الوطنية والإقليمية. يصحح اليسار الجديد اليوم هذه النزعة من خلال إعادة الاعتبار إلى الثقافة، كنتيجة للتحول باتجاه قراءة مختلفة للبنى الفوقية ليس بوصفها انعكاساً أوتوماتيكيا للبنى التحتية، بل بكونها بنى قائمة بذاتها ولها خصوصياتها وفعلها الأساسي في التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ناهيك عن الفكر والثقافة. لا شك أن مجرد الشعور بوجود تحول جذري في تثمين الثقافة ومعها السياسات الثقافية، إنما يدل على وجود حقبة جدية في الثقافة والسياسة. وهي مسألة تفتح على أسئلة عن معنى كونية الثقافة وعن العولمة ودورها في هذا الميدان. هذه القضايا مطروحة بحرارة اليوم في المجتمعات الغربية، بعيداً عن البديهيات التي كانت سائدة، ورفضاً لأي نظرية محددة تسعى إلى اختصار النظر في هذه المسائل، فيما تغرق مجتمعاتنا العربية في مدارات العنف والفوضى، ولا تجد لنفسها مكاناً في هذا النقاش الصاخب عالمياً.