نظام الأسد ليس وحده في مواجهة الثورة السورية التي اختلطت بنزاعات أهلية طائفية معسكرة، ودخلت في مزاد المفاوضات الدولية. ليس المقصود هنا حلفاء النظام من إيرانيين وروس وحزب إلهيين، فهؤلاء من البديهي أن يدافعوا عن مصالحهم بالوقوف ضد إسقاط السلالة الأسدية في دمشق. ثمة ما هو أعمق وأكثر رسوخاً، يتمثل في أحد مستوياته، بذاك التصدع البنيوي الذي يحكم العلاقة بين المكونات السورية الطائفية والإثنية والمناطقية، ويدخلها في نزاعات غير معلنة. هذا التصدع يبدو العامل الأقوى لصمود النظام السوري بعد مضي سنتين على اندلاع الثورة. ذاك أن الدعم الخارجي والإقليمي الذي أعطى العائلة الأسدية فرصاً جديدة للبقاء ومواصلة القتل والتدمير، ليس أكثر من نتيجة موضوعية للمنظومة التي يمثل نظام البعث أحد أضلعها. وفيما تبدو هذه المنظومة متمسكة بجزئها الأسدي، فإن تغيرات دولية ما قد تبدّل الأولويات عند أطرافها ليصبح إسقاط نظام دمشق تفصيلاً عارضاً. وإذا كانت السياسة ومصالح الدول تشكل العنصر الحاسم في انهيار أو استمرار الحلف الداعم للأسد، فإن تناقضات هوياتية جماعاتية عنيفة داخل المجتمع السوري، تحولت بعد الثورة إلى صراعات مفتوحة، سعى بشار الأسد إلى التمترس خلفها للاستمرار في الحكم على رغم كل الدمار الذي حلّ بالبلاد. وتتعدى في طبيعتها الحلول السياسية لتفرز إنقسامات وجروحاً اجتماعية وطائفية يصعب رأب تصدعاتها في الأمد القريب. لكن براعة النظام السوري في التلاعب على الصراعات الجماعاتية يجب ألا تمنعنا من التعامل مع البعد التاريخي لتلك الصراعات. فالخلاف بين الأكراد والعرب وجد قبل وصول الأسد إلى الحكم. الأخير كان يكتفي بإيقاظ هذا الصراع كلما دعت الحاجة. كذلك المسألة العلوية التي فهم مؤسس النظام الاستبدادي حساسيتها الاضطهادية وقام بتوظيفها لترسيخ حكمه عبر تطييف الجيش والأمن مستعيناً بأبناء الطائفة. ولعل خروج بعض هذه الصراعات عن سيطرة السلطة، كالصدام الدرزي-السنّي في مطلع ال2000 والاشتباكات بين الإسماعيليين والعلويين عام 2005، يكشف أن الخصومات الجماعاتية لها جذور تاريخية راسخة والنظام الحالي ليس صانعها وإنما المستفيد الأول منها. هذا الواقع كان من المفترض أن يحتم على المعارضة السورية خوض معركتها من أجل الحرية على مستويين: الأول ضد النظام الذي رسخ جزءاً من شرعيته على قاعدة التلاعب الخبيث بالتناقضات الداخلية، والثاني يتعلق بمشكلات ما قبل النظام، الطائفية والإثنية والمناطقية، وطرح رؤية واضحة وجريئة لحل تناقضاتها، لا سيما أن العلاقة بين المستويين تبدو وثيقة الصلة. ذاك أن الخروج بحلول جذرية للجماعات القلقة على مصيرها، سيؤدي حتماً إلى سحب واحد من أهم مبررات وجود النظام الحاكم. غير أن مهمة المعارضة في بلوغ هذه الغاية لا تبدو سهلة بحكم التخمة الإيديولوجية التي تعانيها. فإسقاط ما قبل النظام يعني التعامل مع مسألة المركزية الدمشقية التي كانت تحكم سورية قبل البعث، وتباينها مع القطب الشمالي للبلاد المتمثل بحلب، إضافة إلى معضلة الأقليات، لا سيما المسألة العلوية، والتباين الكردي–العربي، عدا الصراعات المناطقية والقبلية. هذه المسائل المعقدة تتطلب عقلاً سياسياً مرناً منفتحاً على مختلف أنماط الحكم، الفيدرالية واللامركزية... وليس عقلاً إيديولوجياً يتمسك بوحدة سورية من دون حل الخلافات بين مكوناتها. إذ من الممكن أن نكون موحدين جغرافياً ومنقسمين هوياتياً وطائفياً. لقد صعدت العائلة الأسدية إلى الحكم مستفيدة من الأوضاع التاريخية التي سبقتها، وإذا لم يتم حلّ المشكلات الناتجة من هذه الأوضاع، فإن سورية مرشحة لحكم استبدادي جديد هدفه الانتقام من الحكم السابق والتنكيل به. ولإيقاف هذه الدورة من الاستبداد والاستبداد المضاد، لا بد من إسقاط ما قبل النظام لمنع وجود نظام على شاكلته. * كاتب سوري