صحراء ملتهبة. ظهيرة حارقة. شمس بطيئة الحركة ككرة جحيم جيرية سائلة مضجرة، والسماء لم تعد زرقاء، نارية بيضاء بكل سوء. مساحات ممتدة شاسعة من الرمال الصفراء. خلف كثيب رملي، الرمال الناعمة الكركمية، تلطخت ببقع الدماء الحمراء المتناثرة حول الجثث. الجثث ترتدي أردية الجنود الداكنة. القتلى شباب أهدرت حياتهم. تعبيرات وجوههم المقتولة مفزعة، الغريب أن وسطهم توجد وجوه كأنها تبتسم سخرية من المأساة التي تجرعوها. الأسلحة ملقاة هنا وهناك، بنادق خفيفة وبنادق ثقيلة، مدافع خفيفة تُحمل على الكتف، ومدافع ثقيلة على مثبتات، ومنها على عجلات مطاطية، فوارغ ذخيرة متناثرة بأحجام مختلفة. أصوات انفجارات بعيدة، ترتعش بعض أجساد الجنود التي لم تفارقها أرواحها بعد. إن استطاع أحد المتحشرجين أن ينطق بكلمة، فكلمته هي أمي. تخفت أصوات الانفجارات، روائح البارود ما زالت ثقيلة. كل الجنود الشباب ما بين ميت ويموت. نسور وغربان تحوم، لا يهمها الدخان المتصاعد ولا روائح البارود، يهمها عطانة تتصاعد من الجثث، يهمها أن وليمة مترعة باللحم تنتظرها. نسر قوي يحوم في دوائر حلزونية. من عُلوه يرى تناثر القتلى والجرحى كأنهم شخبطات متناثرة. يهبط مقترباً من بحر الرمال الملطخة بالدم والأشلاء المبعثرة. يأمل في طمأنينة أكثر ليهبط فيهبط من يتابعونه، ليعملوا بمخالبهم ومناقيرهم في اللحم الطازج. يحوم النسر. بين الجثث مكان منخفض كأنه فجوة تكسر امتداد الفيافي الجافة. يتجمع فيها الكثير من الخُوَذ. خُوَذْ خُوَذْ خُوَذْ. الخُوَذْ غالبيتها من دون رؤوسها التي كانت ترتديها، والقليل منها يحتفظ بالرؤوس المبتورة. بعض الخوذ أحزمتها مربوطة على فراغ، وبعضها مفكوك. كلها ملوثة بدماء الفِتْيَة المقتولين. بعض الخوَذْ على قعرها، والبعض على أجنابها. ليس في الحفرة سوى الخُوَذ الفارغة والمعبّأة بالرؤوس. ابتعد النسر بناظريه بعيداً. الطيور الجارحة ترتاب فترتفع، أصوات الانفجارات وزخّات الرصاص البعيدة المتزايدة بثت فيها القلق. طارت تستطلع الموقع القريب، حيث ساحة القتال الجديدة المشتعلة. أجساد تتهاوَى وخوذ مستقرة على رؤوس أصحابها، وخوذ تتطاير وحدها أو مع رؤوسها المفزوعة. بقع الدماء مساحاتها أزيد من سابقتها. الخوذ المتناثرة أكثر. نداءات الاستنجاد بالأمهات ما زالت تتوالى وتتصاعد، ثم تخفت بعد انسحاب الأرواح الشابة من أجسادها المُعَذّبة. من بعيد في خيمته الواسعة، قائد في ملبسه القتالي الفاتح، في تليفون قتال يوالي إصدار الأوامر مستبشراً. من مسافة أبعد، مبنى إسمنتي في معسكر للجيش. قائد في ملبسه القتالي الداكن، في تليفون قتال يوالي إصدار الأوامر متشائماً. زعيم في قَصْره في عاصمة مليونية، يقف أمام كاميرات بث تلفزيوني، يلهب شعبه بشعارات الفجر الجديد والانتصار المجيد. وزعيم في قصره في عاصمة مليونية، يصبّر شعبه ويعدهم بحرب انتقامية آتية سريعاً ولا ريب فيها. ألوف ألوف ألوف ألوف من حجرات كابية الإضاءة مخنوقة الحال. أطفال بائسون مخروسون وسط أمهات وأرامل جالسات في سواد، وجوههن كظيمة ودموعهن غزيرة، وفي أحشائهن شلالات من الحزن الأصفر الكركمي.