التعديلات الكبيرة التي أجراها زعيم حزب العمّال البريطاني المعارض إيد ميليباند على حكومة الظلّ تعتبر دليلاً إلى أنه، بعد ثلاث سنوات على قيادته الحزب، بدأ يضع لمساته الخاصة عليه. تبلغ نسبة الأعضاء الجدد في حكومة الظل المعدّلة 31 في المئة، في حين تصل نسبة النساء فيها حالياً إلى 44 في المئة. وفي شكل عام، يُنظَر إلى التعديلات كدليل على أنّ ميليباند يوجّه الحزب نحو اليسار، ويناهض «مناصري بلير»، أي السياسيين المنتمين إلى حزب العمّال والمرتبطين في شكل وثيق بسياسات رئيس الوزراء الأسبق توني بلير. كتب إيد ميليباند (43 عاماً) تغريدة على موقع «تويتر»، قال فيها «سعيد لأنني أستطيع الترويج لأكثر النوّاب موهبة وشباباً لدينا. وقد حان الوقت لنتابع كفاح ديفيد كامرون ضدّ أزمة غلاء المعيشة». وتعزّزت مكانة إيد ميليباند داخل حزبه منذ الصيف الماضي، حين عمد عدد من كبار السياسيين في حزب العمّال إلى انتقاده علناً وسط الاستعدادات لعقد المؤتمر السنوي للحزب. وبالتالي، اتهم بأنه أخفق في طرح سياسات لمحاربة حزب المحافظين، لا سيّما في وقت بدا فيه أنّ الاقتصاد يبعث بإشارات تدلّ على تعافيه. فضلاً عن ذلك، تسبّب بحصول خلاف مع النقابات العمالية التي تُعتَبر عادةً الداعمة المالية الأساسية للحزب. وقد تمكن إيد ميليباند من هزيمة شقيقه ديفيد ميليباند في الانتخابات في أيلول (سبتمبر) 2010 لاختيار زعيم للحزب، بفضل أصوات النقابات. وكانت الشكوك داخل الحزب تتزايد حيال كونه الرجل المناسب لقيادة الحزب إلى الانتخابات العامة المقبلة المزمع إجراؤها في شهر أيار (مايو) 2015. إلا أنّ حدثين ساهما في تعزيز موقع إيد ميليباند خلال الأسابيع الأخيرة. الحدث الأوّل خطابه الذي فاجأ بمضمونه الجيّد والحماسة التي بثّها في النفوس خلال مؤتمر حزب العمّال، عندما عرض سياساته حول طرق التصدّي لأزمة غلاء المعيشة. أما الحدث الثاني، فتمثّل في الخلاف الذي اندلع بينه وبين الصحيفة اليمينية النافذة «دايلي ميل» بعد أن شنّت هذه الأخيرة هجوماً على والده الراحل رالف ميليباند الذي كان مفكّراً وأكاديمياً ماركسياً ويهودياً. فوصفت الصحيفة رالف بأنّه «الرجل الذي كره بريطانيا» وزعمت أنّ نجله «ريد إيد» (كما يحلو للصحيفة تسميته) يطبّق إرثه. ووجد عدد كبير من الأشخاص أنّ ما جاء في المقال يفتقر إلى الصحّة والإنصاف، وعبّروا عن استيائهم من مهاجمة قائد من خلال مهاجمة والده الراحل. إلا أنّ صحيفة «ميل» رفضت الاعتذار. وعلت الانتقادات ضد الصحيفة من الأطياف السياسية كافة، وكان التعاطف كبيراً جدّاً مع إيد ميليباند. وحين طلب حق الردّ، رأى البعض أنّه يواجه صحيفة تلجأ إلى التهويل. كما رأى بعض المعلقين اليهود أنّ المقال معادٍ للسامية. إلا أنّه ليس من التهم التي وجّهها ميليباند للصحيفة. في إطار خطاب ميليباند في مؤتمر حزب العمّال، تحدّث لأكثر من ساعة من دون أن يقرأ أية ملاحظات مكتوبة على الورق أو على الشاشة. وأعلن أنّه يدافع عن الشعب العادي الذي يشعر بغلاء المعيشة وبهبوط مستوى الحياة. وكرّر مراراً أنّ «بريطانيا قادرة على القيام بأفضل من ذلك». ووعد ميليباند، في حال فوز حزب العمّال في الانتخابات عام 2015، «بتجميد أسعار الغاز والكهرباء حتى بداية عام 2017. ولن ترتفع فواتيركم. وستستفيد من ذلك ملايين العائلات وملايين الشركات. وهذا ما أعنيه حين أقول حكومة تناضل من أجلكم». ولفت إلى أنّ شركات الغاز والكهرباء تفرض رسوماً مبالغة على الناس منذ زمن طويل «بسبب سوق لا تعمل. وقد آن الأوان لمعاودة إطلاق السوق». بعد أيام قليلة على خطاب ميليباند، صرّح لقناة «بي.بي.سي» أنه ينوي التدخّل في أسواق أخرى في حال لم تكن تلبي حاجات المستهلك، وأضاف قائلاً: «سنعالج أزمة غلاء المعيشة. ومن الأمور التي سنقدم عليها في سبيل ذلك تشغيل الأسواق لمصلحة عامّة الشعب». ويشار إلى أنّ رافاييل بيهر، الذي يكتب في مجلة «نيو ستيتسمان»، أطلق على مقاربة ميليباند اسم «اشتراكية المستهلك»، التي تختلف عن الاشتراكية التي برزت في سبعينات القرن الماضي. ومن المعلوم أن القسم الأكبر من البنية التحتية في بريطانيا يخضع لإدارة الشركات الخاصة، وهو أمر سيبقى مستمراً. ملف الصحافة ولا تكره صحيفة «دايلي ميل» ميليباند لأنه زعيم حزب العمّال فحسب، ويعتمد سياسات يسارية، بل أيضاً لأنه يرفض اقتراحات الصحيفة باعتماد تنظيم ذاتي لهذه الأخيرة، ولأنه يفضّل اعتماد ميثاق ملكي لتنظيم الصحافة، نال مصادقة من البرلمان ومن الأحزاب السياسية الثلاثة الأساسية. أمّا المسألة المرتبطة بمعرفة أي من الميثاقين الملكيين المتنافسين لتنظيم الصحافة سيتم اختياره، فتدرسها لجنة فرعية لمجلس شورى الملكة، الذي يرفع تقاريره إلى الملكة مباشرة. وحتى قبل الهجوم على رالف ميليباند، حاولت صحيفة «دايلي ميل» إحراج إيد ميليباند خلال مؤتمر حزب العمّال، من خلال نشر مذكرات داميان ماكبرايد، الذي كان المستشار الخاص لغوردون براون حين كان هذا الأخير وزيراً للمالية ومن ثمّ رئيساً للوزراء. وحين كان توني بلير رئيساً للوزراء بين عامي 1997 و2007، برزت منافسة غير نزيهة بين بلير وبراون الذي كان عازماً على أن يصبح رئيساً للوزراء مكان بلير. وفيما كان داميان ماكبرايد يعمل لمصلحة غوردون براون، أقدم على «ألاعيب قذرة»، على غرار تنظيم حملات إشاعات وإصدار تقارير ضد وزراء حزب العمّال الذين كان يعتبرهم براون أعداء له. وأقدم براون على إقالة ماكبرايد في نيسان (أبريل) 2009، بعد أن اكتشف الألاعيب القذرة التي كان يعدّها ضد سياسيين في حزب المحافظين المعارض آنذاك، والإشاعات والأكاذيب التي كان ينشرها حول حياتهم الجنسية والخاصة. وكان إيد ميليباند ومعه إيد بولز، وزير المالية الحالي في حكومة الظل، منتميين إلى الفريق العامل في وزارة المال، حين كان غوردن براون على رأسها. وتثير المذكرات أسئلة حول مدى معرفتهما بالألاعيب القذرة التي أقدم عليها ماكبرايد. بعد مؤتمر حزب العمّال، شنّت «دايلي ميل» هجوماً على رالف ميليباند، وهو كاتب ماركسي بارز وأكاديمي كان أستاذاً في كلية لندن للاقتصاد وفي جامعات أخرى في الولاياتالمتحدة وبريطانيا، وكان المقال الهجومي في الصحيفة الذي كتبه جيوفري ليفي، في عنوان «الرجل الذي كره بريطانيا». وقد ورد في العنوان الفرعي أنّ «تعهّد ريد إيد باستعادة الاشتراكية هو تحية لوالده الماركسي». واقتصر الدليل الذي قدّمته الصحيفة لدعم مزاعمها القائلة إنّ رالف ميليباند كان «يكره بريطانيا» على مقطع في يومياته حين كان في السابعة عشرة، انتقد فيه القومية البريطانية. كما نقلت بعض التعليقات التي كتبها في رسالة خاصة، عبّر فيها عن اشمئزازه من المؤسسات التي تتمتّع بامتيازات في بريطانيا، ومن نظام الطبقات الاجتماعية، مع العلم أنّ الكاتب جورج أورويل وأشخاصاً آخرين أطلقوا تعليقات من هذا القبيل. وأرسل إيد ميليباند احتجاجاً لصحيفة «ميل» لأنها هاجمت والده، ولقي موقفه الكثير من التعاطف. وقال رئيس الوزراء ديفيد كامرون «لو كنتُ مكان إيد وقام أحدهم بمهاجمة والدي، لكنتُ عبّرت بوضوح عمّا يخالجني... لكنتُ تصرّفت مثله». وأعلن نائب رئيس الوزراء وزعيم الحزب الديموقراطي الليبرالي نيك كليغ، الذي تعرّض أيضاً لهجوم من صحيفة «دايلي ميل»، أنه في كلّ مرة يفتح فيها صحيفة «دايلي ميل»، يشعر «بأنها تفيض بمشاعر غضب حيال بريطانيا العصرية». وأردف قائلاً: «لم ينجح أي طرف أكثر من صحيفة «دايلي ميل» في ذم بريطانيا العصرية وتشويه سمعتها». وطالب إيد ميليباند بحق الرد، ووافقت الصحيفة على نشر مقال له يدافع عن والده، في عنوان «لماذا أحبّ والدي بريطانيا». وفي المقال، كتب إيد أنّ والده رالف أحب بريطانيا لأنها أنقذته من النازيين. وقد ولد رالف في بلجيكا في عام 1924 من والدين يهوديين، ينتميان إلى الطبقة العاملة، وهما بولنديان وصلا إلى بريطانيا في عام 1940، حين كان رالف في السادسة عشرة، على متن آخر سفينة انطلقت من بلجيكا قبل وصول الجنود الألمان المحتلين. وأشار إيد إلى أنّ رالف التحق بالقوة البحرية الملكية في بريطانيا، لأنه كان عازماً على المشاركة في القتال ضد النازيين، وكان عمله على السفن البحرية البريطانية يقضي بتلقّي رسائل الراديو الألماني وترجمتها. وأحب رالف بريطانيا لأنّها وفّرت له ولعائلته «الحياة الكريمة التي يتّصف بها وطننا». وشدّد إيد ميليباند على أنّ «وجهات نظر والدي اليسارية القوية معروفة تماماً، كما أنّه من المعروف أنني سعيتُ لأسلك طريقاً مختلفاً، وأنا أملك رؤية مختلفة... وأريد تفعيل الرأسمالية لمصلحة الشعب العامل، وليس تدميرها». ومع أنّ صحيفة «ميل» نشرت مقال إيد ميليباند الذي دافع فيه عن والده، أعادت نشر المقال الذي كتبته عن رالف ميليباند بجانب مقاله. وفي الوقت ذاته، نشرت مقالاً هجومياً جديداً على رالف ميليباند في عنوان «إرث شرير ولماذا لن نعتذر». وسخرت الصحيفة من مقال إيد ميليباند معتبرة أنّه «سريع الغضب ومتوعّد». ووصفت رالف ميليباند بأنّه «أحد أبرز المفكرين الماركسيين في جيله» وقد «كرّس حياته لنشر عقيدة من بين الأكثر سمّيةً في التاريخ». وتابعت «أنّ عداء الوالد لحرية التعبير تبلور في عزم نجله على وضع الصحافة البريطانية تحت السيطرة التشريعية. وفي حال قام بقمع حرية الصحافة، لا شكّ في أنّ والده سيكون فخوراً به من قبره حيث يرقد بالقرب من رفات كارل ماركس. إلا أنّه ساهم في نشر الشيوعية في هذا البلد الذي يحبه الكثيرون بيننا بصدق». وزادت الصحيفة أنه في كل خطاب ألقاه «ريد إيد» منذ أن أصبح زعيماً لحزب العمّال «تحدّث عن والديه اللاجئين، وعن فرارهما من النازية، وعن الدين الذي هو مدين به لهما لقناعاته وقيمه». وأشارت إلى أنّه لو قال هذا الرجل الذي يأمل في أن يصبح رئيساً للوزراء إنّ الرؤية التي آمن بها والده ساهمت في تكوين سياسته، لا بدّ من أن تصبح حياة والده وعمله محط مساءلة صحافية مشروعة. وأضافت أنه تتلمذ على يد هارولد لاسكي وكان إريك هوبسباوم من بين أصدقائه. وبعد أن نشرت الصحيفة مقالها الهجومي على رالف ميليباند، تمّ تنظيم حفل تأبين خاص في مستشفى غي، للبروفسور هاري كين، زوج عمة إيد ميليباند، الذي كان اختصاصياً رائداً في مرض السكري والكلى، وكانت زوجته شقيقة رالف ميليباند. وأرسلت الصحيفة الأسبوعية «ميل أون صانداي»، شقيقة «دايلي ميل» اليومية، صحافية خلسة لحضور هذا الحدث. وراحت هذه تطرح أسئلة على أقارب ميليباند حول رالف. فاعترض إيد ميليباند بغضب على ذلك، في رسالة بعث بها إلى اللورد روثرمير، مالك صحيفة «دايلي ميل»، وحفيد مؤسس الصحيفة، وقال في الرسالة، «إن استقدام مراسلة إلى حفل تأبين زوج عمتي يتخطى الحدود الأخلاقية. وأظنّ أنه من أعراض ثقافة وممارسات صحيفتي دايلي ميل وميل أون صانداي». وعلى خلاف محرّر صحيفة «دايلي ميل» بول داكر، الذي رفض الاعتذار لإيد ميليباند على المقال الذي كتبه عن والده، اعتذر جوردي غريغ، رئيس تحرير صحيفة «ميل أون صانداي» لإيد ميليباند على التسلّل إلى حفل التأبين العائلي الخاص، كما تمّ تعليق عمل صحافيّين من «ميل أون صانداي». وكذلك اعتذر مالك صحيفة «ميل»، اللورد روثرمير من إيد ميليباد عما حدث، ولكن ليس عن المقال الذي نُشر عن والده. فاشية بريطانية ولسوء حظّ صحيفة «دايلي ميل»، أدى هجومها على رالف ميليباند إلى إصدار معلومات محرجة تذكّر بدعم الصحيفة السابق للفاشية. وفي التفاصيل، كان اللورد روثرمير الأول، أحد الشقيقين اللذين أسسا الصحيفة في عام 1896، صديقاً لأدولف هتلر وبينيتو موسوليني، وكان يوجّه مواقف صحيفة «ميل» وفق قناعاتهما في بداية ثلاثينات القرن الماضي. وثمة صورة للّورد روثرمير يقف بجانب هيتلر خلال لقاء معه. وفي عام 1933، نشر اللورد روثرمير مقالاً في عنوان «فوز الشباب»، مدح فيه الإنجازات الجديدة للنظام النازي، كما دعم الزعيم الفاشي البريطاني أوسوالد موسلي، واتحاد الفاشيين البريطانيين. وكان المقال الذي مدح فيه موسلي في عام 1934 في عنوان «فلتحيَ القمصان السوداء». وفي الوقت نفسه، اعترضت صحيفة «ميل»، في ثلاثينات القرن الماضي، على فرار اليهود الأوروبيين إلى بريطانيا هرباً من الاضطهاد النازي. وفي عام 1938، نشرت مقالاً في عنوان «اليهود الألمان يتدفقون إلى هذا البلد». وبدأت بقول منقول عن قاضٍ، أفاد بأنّ «طريقة تدفق اليهود المجرّدين من أي دولة من ألمانيا إلى هذا البلد تتحوّل إلى عمل فاضح». * صحافية بريطانية