الصحافة الورقية الفلسطينية في أزمة، والأرقام شاهدة على تراجع توزيعها، على غرار ما تواجهه الصحف الورقية في أنحاء العالم. لكن الصحافة في فلسطين تواجه تحدياً آخر فرضته تبعات الانقسام بين «فتح» و «حماس» منذ عام 2007، إثر سيطرة «حماس» على قطاع غزة، والذي أدى إلى منع توزيع الصحف بين الضفة والقطاع. فمنذ ذلك الحين، لم تعد «حماس» تسمح بتوزيع الصحف الصادرة في القدسورام الله، وهي «القدس» و «الأيام» و «الحياة الجديدة» في غزة، فيما تمنع السلطة صحيفة «فلسطين» الصادرة في غزة من الوصول إلى الضفة. ولم تسفر أيٌّ من المحادثات السياسية بين «السلطتين الحاكمتين» في تغيير الواقع. تراجع الانتشار ولكن... يكشف رؤساء ومدراء تحرير الصحف الفلسطينية اليومية الورقية الأربع أن نسب توزيع النسخ الورقية انخفضت في السنوات الخمس الأخيرة، لكن من دون أن يفصح أي منهم عن أعداد التوزيع. وعلى رغم ذلك، يقلل هؤلاء من خطورة انخفاض نسب التوزيع، ويستبعدون اليوم الذي يُستغنى فيه تماماً عن الصحافة الورقية. ويجمعون على ارتباط القراء بالورق ورونق الجريدة وشكلها ووجودها في حياة كثيرين كضرورة مع قهوة الصباح. يقول يحيى يخلف، رئيس مجلس إدارة صحيفة «الحياة الجديدة» المشرف العام عليها، إنه لم تُسجل خسائر سنوية للصحيفة، لكن ذلك لا يعني عدم وجود مشكلة في كيفية التوزيع، موضحاً أن وزارات السلطة في الضفة والنخب لا يزالون زبائن دائمين للصحيفة، ومعترفاً بأن الصحيفة لا تصل إلى الأرياف والمناطق البعيدة عن المدن. أما ماهر الشيخ، مدير تحرير جريدة «القدس»، فيرى أن نسبة انخفاض المبيعات الورقية لصحيفة «القدس» محدودة، ويدلل على ذلك بأن نسبة الإعلانات في الصحيفة ما زالت في مستوى جيد، عازياً الأمر إلى أن صحيفة «القدس» لا تزال بلا منازع منبر الأخبار الاجتماعية التي لا يستغني الفلسطينيون عنها، وهو ما لم يوفره أي من مواقع الإنترنت على كثرتها. وعلى رغم ذلك، توقفت الصحيفة، منذ نحو ثلاثة أشهر، عن توزيع نسخها الورقية في الأردن بسبب تكاليف الشحن والتوزيع. «لكن ذلك لا يعني انخفاضاً دراماتيكياً في التوزيع»، يقول الشيخ. ويعزو عبد الناصر النجار، مدير تحرير صحيفة «الأيام»، تراجع الإقبال على الصحافة الورقية عموماً إلى انتشار الإنترنت «المفضل لدى القراء الشباب الذين يشكلون غالبية المجتمع الفلسطيني»، معتبراً أن الإقبال على الورق مستمر من النخب فقط. ويرى النجار أن الصحف ذاتها تساهم في تراجع توزيع مطبوعاتها الورقية، لأنها ببساطة تنشر كامل صفحاتها على الإنترنت، «فلماذا يقبل المواطن على شرائها ما دامت متوافرة مجاناً على الشاشة الإلكترونية»؟ في المقابل، فإن صحيفة «فلسطين» الصادرة في غزة والممولة من «حماس» لم تذق مرارة تجربة انخفاض المبيعات الورقية، لأن الصحيفة لم تجنِ ثمار أرباح التوزيع في الضفة وغزة سوى شهر واحد فقط. يقول إياد القرا، المدير العام لصحيفة «فلسطين»، إن الصحيفة انطلقت في 3/5/2007، ثم حدث الانقسام وما تلاه من توقف توزيع الصحيفة في الضفة في 14/6/2007، ما دفع إلى أطلاق الموقع الإلكتروني للصحيفة مباشرة، آنذاك، كحل لعدم وصول الصحيفة إلى قرائها في الضفة الغربية. أزمة توزيع... وإعلان ويعود الفضل في بقاء صحف «الأيام» و «الحياة الجديدة» و «فلسطين» على قيد الحياة إلى اعتمادها على مصادر أخرى للتمويل غير عائدات التوزيع والإعلانات. فصحيفة «الأيام» تملك أكبر وأحدث مطابع في فلسطين، ما جنّبها أي أزمة مالية. وكذلك الحال بالنسبة إلى صحيفة «الحياة الجديدة» الممولة من «صندوق الاستثمار الفلسطيني»، والتي تملك أيضاً مطابع خاصة بها. والحال لا يتخلف في صحيفة «فلسطين» الممولة من «حماس» مباشرة. أما صحيفة «القدس» فهي الوحيدة التي تعتمد في أرباحها على الإعلانات وتوزيعا ورقياً. ووفق استطلاع أجرته دائرة الإعلام في جامعة بيرزيت أخيراً، فإن «القدس» هي الأوسع انتشاراً في الضفة الغربية. ويعزو مدير تحريرها الأمر إلى كثرة الإعلانات في الصحيفة. ولا يرى القائمون على الصحف الفلسطينية إمكان تغير الحال واعتماد مؤسساتهم في شكل أكبر على الإعلانات التجارية في المستقبل المنظور. داوِها بالتي كانت... وعلى رغم إيمان رؤساء تحرير الصحف الفلسطينية بأن «انقراض الصحافة الورقية» أمر مستبعد، فإنهم يجدون أن مواجهة تسرب قراء الصحف الورقية إلى الإنترنت يكون في إطلاق مواقع إلكترونية عصرية لتلك الصحف، وهو أمر لا مفرّ منه عاجلاً أم آجلاً. صحيفة «القدس» قطعت الشوط الأبعد في هذا المضمار من خلال موقعها الإلكتروني الذي يعد الأكثر تطوراً بين المواقع الإلكترونية للصحف الفلسطينية، إذ يوفر خدمة الخبر العاجل، ويبث تقارير مصورة ونشرات أخبار قصيرة، استناداً إلى مكاتب الصحيفة في رام الله وعمّان ولندن. وعلى رغم ذلك، يعترف الشيخ بأن الموقع الإلكتروني لا يحقق أرباحاً، «بل يُنفق عليه من أرباح الصحيفة الورقية». وتعد «القدس» الصحيفة الفلسطينية اليومية الوحيدة التي لا تنشر محتواها مجاناً، إذ يقتضي فتح نسختها الإلكترونية (بي دي أف) دفع رسوم مسبقة، بينما تنشر الصحف الأخرى نسخها اليومية في منتصف النهار مجاناً. أما الموقع الإلكتروني لصحيفة «فلسطين»، الذي يوفر خدمة الخبر العاجل أيضاً على مدار الساعة، فلا يهدف إلى الربح أساساً، بل إيصال «الرواية الأخرى» من القصة (من وجهة نظر «حماس») إلى القارئ الفلسطيني والعربي، بحسب تعبير القرا. وتمكن الموقع أخيراً من إطلاق تطبيقاته على «آي باد» والهواتف الذكية، الأمر الذي لا يتوافر في مواقع الصحف الأخرى، ما زاد من عدد قراء الموقع، خصوصاً من خارج فلسطين. ويرى القائمون على صحيفة «الأيام» أن من الحكمة عدم المبالغة في الإنفاق على الموقع الإلكتروني وإبقاء ذلك متماشياً مع قدرات الصحيفة فقط، «طالما أن المُعلنين التجاريين لا يزالون يُفضلون الصحافة الورقية»، بحسب النجار. في المقابل، يكشف يخلف أن لدى «الحياة الجديدة» خطة قبل نهاية العام الحالي لإطلاق موقع إخباري مستقل عن الجريدة، يعمل كوكالة أخبار ويقدم أخباراً عاجلة، «لكنه لا يُلغي الموقع الحالي للجريدة». منابر جديدة ورؤى قديمة لا يوجد لدى القائمين على الصحف الفلسطينية الأربع رؤية واضحة للتعاطي مع خصوصيات الصحافة الإلكترونية، وأهمها الانتشار محلياً وعالمياً. وعلى رغم أنهم يأملون بالوصول إلى القراء العرب أينما كانوا، فإن أياً منهم لا يملك رؤية حول كيفية الوصول إلى هؤلاء القراء وجذبهم وتلبية حاجاتهم أو حتى مخاطبة فلسطينيي الشتات الذين يُشكلون ثلاثة أرباع الفلسطينيين. كما لا توجد لديهم رؤية واضحة لتغيير الخط التحريري المتبع، استجابةً لما يقتضيه الانفتاح على العالم الإلكتروني من حرية النشر والتعبير. بل إن القائمين على الصحف الأربع يتحدثون عن مساوئ عدم وجود «سقف للحرية» في صحافة الإنترنت. ويربط النجار بين الحرية المطلقة التي تتوافر لدى الصحافة الإلكترونية وغياب الدقة في نقل الأخبار، «الأمر الذي لا تقع فيه الصحافة الورقية بفضل الرقابة والتأني»، بحسب تعبيره. يُذكر أن إقبال المواطن الفلسطيني على الصحف كمصدر للمعلومات والترفيه هو الأدنى، وفق استطلاع للرأي أجرته دائرة الإعلام في جامعة بيرزيت، إذ يفضل 8.2 في المئة فقط من الفلسطينيين الصحف الورقية على وسائل الإعلام الأخرى، فيما يفضل 50 في المئة منهم المواقع الإلكترونية والتواصل الاجتماعي كمصدر للمعلومات والترفيه.