«فلنرحل إذاً، لنمخر عباب البحار حتى انطفاء أضأل قبس من نور تنطوي عليه روح كائن... سنتبع هذا النور الأخير، مهما بَهُتَ وخبا، ومهما كان شحيحاً، فلعل منه ينبلج جمال العالم، ذاك الذي سيضع حداً نهائياً لوجع العالم». بهذه النبرة الجريحة الغاضبة يصرخ بطل رواية «أن ترحل» للمغربي الطاهر بن جلون، وهو يتطلع بحرقة نحو الضفة الأخرى من المتوسط هرباً من الفقر والقمع والتخلف والنزاعات. لكنّ هذه الصيحة الموجعة، أو ما يماثلها، ليست وحيدة، بل أطلقت مراراً في أفلام وروايات ومسرحيات تتحدث عن «موسم الهجرة إلى الشمال». ومواسم هجرة البشر لا تشبه مواسم هجرة الطيور التي تكتفي بهجرة سنوية واحدة، بينما هجرات البشر مستمرة على مدار العام، ولعل آخر فصولها كان قبل أيام، حين تواترت الأخبار عن جزيرة إيطالية صغيرة اسمها لامبيدوزا، استقبلت جثث عشرات المهاجرين الأفارقة بعد غرق قاربهم في تلك البرهة الفاصلة بين الجحيم والفردوس. وقبلها بأيام قليلة توجّه الاهتمام إلى شواطئ اندونيسيا حيث غرقت هناك أيضاً عبّارة كانت تقل مهاجرين لبنانيين إلى استراليا. بين لامبيدوزا والأرخبيل الأندونيسي مسافة شاسعة، غير أن رائحة النعوش جمعت المكانين لتعيد مجدداً حكاية اللجوء التي لا تنتهي، فكلما تكررت المحن والمآسي، بدا الفارون من أفريقيا والشرق الأوسط وآسيا أكثر اصراراً على الرحيل، وكأن نداء البحر هو بمثابة سحر يجذب «الباحثين عن حياة أفضل» إلى محطتهم الأخيرة. لا شهود هناك في أعالي البحار سوى صخب الموج والزرقة الموحشة وملوحة المياه... عدسات الفضائيات تصل عند اكتمال المشهد، تأتي لترثي الضحايا، وهي تكتفي بعرض صور القتلى وبعض الحكايات المجتزأة؛ المختزلة على لسان من نجوا من موت محتم. كل ما يحدث على متن القوارب والسفن والعبّارات وهي تصارع الأمواج العاتية، يظل مجهولاً. كل علامات الخوف والذهول والمعاناة لا يجد له مكاناً سوى في أرشيف الموتى الذين احتفظوا برعب اللحظات الأخيرة في قلوبهم ومضوا إلى الأعماق. بشر من الجنسين ومن كل الأعمار يغامرون بحياتهم في سبيل الوصول الى بوابة الخلاص البعيدة، ولكن سرعان ما يتحولون إلى مجرد رقم في نشرات أخبار تهتم بالحدث إلى حين ثم تعود إلى إيقاعها المعتاد في انتظار قارب آخر يسير نحو النهاية التراجيدية. لن تعود الفضائيات يوماً إلى بلاد المهاجرين لتبحث عن أسباب الرحيل، ولن توثق رحلتهم المضنية وهم يبحثون عن سمسرة تقلهم إلى الضفة الأخرى عبر صفقات مشبوهة، ولن نعثر على صور وهي تظهر تلك اللحظات العصيبة التي تفصل بين الحياة والموت، ولن نعرف مصائر من نجح في الوصول حياً إلى أوروبا... فقط سنرى تقارير بين الحين والآخر عن قوارب غرقت في رحلتها نحو لامبيدوزا وشقيقاتها، وسنسمع تصريحات رسمية مضللة، ليعود كل شيء إلى سابق عهده في انتظار كارثة جديدة!