«أميركا أوقفت المعونة»! قالها لصديقه وملامح القلق بادية على وجهه. تهللت أسارير الصديق وغمرت الفرحة وجهه وقال رافعاً يديه إلى السماء «الحمد لله! هذا يؤكد أننا على الطريق الصحيح». رد الفعل المغمور بالفرحة والمفعم بالطمأنينة التي لا تخلو من نبرة فخر واعتزاز كان لسان حال المصريين بعد أسابيع تعب فيها الجميع من لعبة نتف أوراق وردة المعونة الأميركية. وحين استقرت الورقة الأخيرة عند «سنحجب جزءاً من المعونة»، جاء رد الفعل الشعبي المصري مذهلاً، ليس فقط للأميركيين بل للمصريين أنفسهم. وبين «أحسن» و «في داهية» و «بناقص» و «خير ما فعلوا» و «مع السلامة والقلب داعي لكم» و «السكة اللي تودي» و «الباب يفوت جمل» تراوحت ردود الفعل في الشارع المصري مشيعة جواً من الفرحة الشعبية وشعوراً عارماً بالفخر. فرحة الفخر المستعادة شغلت الغالبية عن التمعن في قرار الحجب الذي يقتصر على تسلم دبابات وطائرات وصواريخ ومبلغ 269 مليون دولار فقط لا غير إضافة إلى كونه «قراراً موقتاً». كبار السن اجتاحتهم «نوستالجيا» تأميم القناة، ومتوسطو العمر تنفسوا الصعداء وكأن ورقة المعونة المكبلة والتي ظلت جاثمة على الصدور انزاحت وأخذت معها قيود التبعية. أما الصغار فسعدوا بالخبر وإن لم يتبينوا سبب الفرحة. فرحة المصريين بحجب جانب من المعونة تعكس فطرة شعبية نادرة الظهور لكن بالغة الأثر. فحين يتحدث سائق الأجرة بزهو عن «دولارات الغبرة» ويتذكر حارس العمارة تأكيد جمال عبدالناصر أن «الشعب المصري لن يبيع استقلاله وحريته وأننا (المصريين) قادرون على توفير أموال المعونة بتقليل النفقات»، وحين تغرد طالبة جامعية «أميركا أوقفت المعونة لمصر باعتبارها أداة ضغط أو عقاب. انتهت النكتة»، وحين يعلق شاب عشريني: «المعونة بند من بنود كامب ديفيد والبادي أظلم»، فإن هذا يعني أن المعونة ليست مجرد أموال تضخ أو ضغوط تبذل أو سياسات تسن، بل لها وجه إنساني فطري شعبي يعكس ثقافة وينضح بطبيعة شعب أغفلته الولاياتالمتحدة تماماً. ردود الفعل الجدارية الأولية ظهرت في كتابات «غرافيتي» عشوائية تحذر: «خافي منا يا أميركا» وتعلق: «أوباما والإخوان إيد واحدة» وتسخر: «المعونة عند الست الوالدة» وأخرى عنكبوتية عنترية انفعالية على غرار: «طز في المعونة» و «أوباما... طير أنت ومعونتك» و «فلتذهب المعونة الأميركية إلى الجحيم». جحيم الاستقطاب لم يستثن المعونة من ثنائية فريقي «الشرعية والشريعة» و «انقلاب الإرادة الشعبية» المتناحرين، فبينما مال الأخير ميلاً جماعياً إلى اعتناق مذهب فرحة الحجب والتمسك بتلابيب آمال الكرامة والاستقلال وإعادة إحياء حملة «امنع معونة» والعودة إلى رمزية الدعوة «معاً لإعادة ترميم أنف أبو الهول»، وجد الفريق الأول نفسه يكتم شعوراً عارماً بالسعادة وإحساساً عميقاً بالشماتة، فكل ما من شأنه أن يكسر الجيش يسعدهم وكل ما هو قادر على تقويض الاقتصاد يفرحهم وكل ما يصب في عرقلة مظاهر الحياة يغبطهم باعتبارها خطوات لاستعادة الشرعية وعودة رئيسهم المعزول إلى القصر. لكن الفرحة المكتومة لا تعني عدم التمسك بالعادات وضرب عرض الحائط بالتقاليد، فالفكر التآمري إرادة جماعة، والعمالة والخيانة اتهامات سابقة التجهيز. وبحسب العقيدة «الإخوانية»، فإن حجب المعونة ليس إلا مؤامرة غربية صليبية علمانية ليبرالية أميركية تهدف تغييراً نوعياً للمعونة، وذلك باستبدال الأسلحة الثقيلة التي يخشى وقوعها في أيدي الإسلاميين بعد كسر الانقلاب واستعادة الشرعية وعودة مرسي إلى القصر بأخرى لمحاربة الإرهاب. وفي أقوال «إخوانية» أخرى، فإن حجب أميركا لجانب من المساعدات العسكرية ما هو إلا مسرحية هزلية بين وزيري الدفاع المصري عبدالفتاح السيسي والأميركي تشاك هاغل لتلميع الأول تمهيداً للانتخابات الرئاسية المقبلة المزيفة. لكن الحق يقال إن الأول لم يكن في حاجة إلى مزيد من التلميع. صحيح إن كثيرين رأوا في حجب جانب من المعونة عنصراً محفزاً لمزيد من حب المصريين للسيسي وعاملاً محركاً لشعبية آخذة في النمو والتبلور والتضخم، لكن وما قطع المعونة إلا إضافة صغيرة إلى شعبيته المضطردة.