جاء قرار السماح بالسفر للأميركيين (ومن جنسيات أخرى) المتهمين بخرق القانون المصري في ما يعرف بقضية تمويل المنظمات الأجنبية، وبعد دفع كفالة مالية كبيرة نسبياً، صادماً لجموع المصريين الذين وجدوا في الاتهامات ما يمس سيادة وكرامة البلاد والعباد معاً، وأن أقل القليل هو المحاكمة والأحكام الرادعة التي تشفي الغليل. وما يزيد الشعور بالصدمة الشعبية أمران؛ الأول هو كم التصريحات الأميركية التي سبقت القرار والتي أشارت إلى قرب التوصل إلى حل للمسألة، خصوصاً تصريح هيلاري كلينتون الذي كان واضحاً تماماً بأن هناك مفاوضات تجري في تكتم شديد مع المسؤولين المصريين للبحث عن حل مرضٍ وفي إطار قانوني على الأقل من الناحية الشكلية. أما الأمر الثاني فهو غموض المقابل الذي حصلت عليه مصر. بل هناك من يتساءل: هل حصلت مصر على شيء أصلاً؟ وإن كان فما هو؟ وما يزيد الأمر سوءاً هو التكتم الذي تمارسه المصادر المعنية بالأمر، بخاصة تفسير التحول في الموقف المصري من حظر السفر إلى السماح به. والأمران معاً يشيان بأن هناك صفقة تم التوصل إليها وأن مصر هي الطرف الخاسر، وبالتالي يصبح التساؤل المشروع لماذا أقدمت الحكومة المصرية على هذا التصرف وهل كانت تدرك العواقب فعلاً؟ وهل هي الطرف الخاسر أم أنها حققت بعض المكاسب ولو بطريق غير مباشر. في العُرف الشعبي السائد أن الثورة أتاحت لمصر أن تتحرر تماماً مما يوصف بسياسات النظام المخلوع التي أذلت المصريين وأهانت البلاد، وسمحت للأميركيين أن يصولوا ويجولوا من دون رادع، مستغلين في ذلك المعونة السنوية بشقيها الاقتصادي والعسكري لكي يفرضوا إرادتهم على صانع القرار المصري. واتساقاً مع هذا الشعور الشعبي كان إصرار الحكومة على إحالة قضية التمويل الأجنبي لمنظمات أميركية تعمل من دون ترخيص قانوني على القضاء، بمثابة تأكيد على أن الثورة بدأت تفعل فعلها في تصحيح مسار وطبيعة العلاقات المصرية - الأميركية، وفي محاصرة جوانبها التي تمس السيادة والأمن القومي. وجاءت التغطيات الإعلامية الصاخبة المؤيدة للتصرف الحكومي في إحالة الملف برمته إلى القضاء، لتضيف شعوراً بالفخر العام، وبالندية في العلاقة مع الولاياتالمتحدة، وأن معادلات الأمس لم تعد هي معادلات اليوم. غير أن ما غاب في هذا السياق هو أن هذه القضية تحديداً ليست قانونية وحسب، أو تتعلق فقط بانتهاكات جسيمة مارستها منظمات أميركية وغير أميركية لا شرعية قانونية لعملها على الأرض المصرية، أو تخص سلوكات وممارسات تضر الأمن القومي شارك فيها أجانب ومصريون على السواء، بل هي ذات بعد سياسي بامتياز يتعلق بكيفية إدارة العلاقات المصرية - الأميركية في ما بعد الثورة، وبمحاولة الجانب المصري تصحيح بعض أوجه الخلل في هذه العلاقة، وفي الآن نفسه الحفاظ على حد أدنى من الدفء في تفاعلات الجانبين مستقبلاً. أو بعبارة أخرى رسم إطار جديد ومختلف لعلاقات المستقبل عما كان عليه الوضع في المرحلة السابقة، من دون أن تتم خسارة العلاقة مع قوة دولية كبرى ومهمة. حرص متبادل في هذا الجانب السياسي لابد من التذكير بعدد من العناصر المهمة، أولها: أن العلاقات المصرية - الأميركية تمثل أهمية عليا للطرفين معاً، وثانيها: أن علاقات البلدين قائمة على عنصر تبادل المصالح سواء كانت مادية بحتة قابلة للإحصاء واللمس، أو ذات طابع استراتيجي بعيد المدى، أو كانت معنوية ترضي غرور الطرفين معاً، وثالثاً: أن الجانب المصري ليست لديه أوراق ضغط كتلك التي تملكها الولاياتالمتحدة تجاه مصر، فهناك عدم تناسب في القدرات وفي النفوذ والتأثير بين الطرفين، وبالتالي هناك عدم تناسب في حاجة كل طرف للآخر. رابعاً: أن العلاقة الثلاثية التي كانت تحكم تفاعلات الطرفين وإلى جانبهما إسرائيل لم تعد تمثل حجر الزاوية كما كان الوضع قبل عقد أو عقدين من الزمن، فتعثر عملية السلام ولا مبالاة الولاياتالمتحدة وتعنت إسرائيل وانقسام الفلسطينيين، حصر العلاقة المصرية - الأميركية في تفاعلات ثنائية بالدرجة الأولى. يضاف إلى هذه العناصر ذات الطابع الممتد، أمران آخران يتعلقان بعدم الرضا المصري على السلوك الأميركي تجاه مصر بعد خلع الرئيس مبارك. إذ كان هناك توقع وطموح في أن تقدم الولاياتالمتحدة كل صنوف الدعم الاقتصادي لمصر الثورة، وأن تحضّ الأصدقاء في كل مكان على أن يجزلوا العون الاقتصادي حتى يمكن لمصر أن تنهض من عثرتها الاقتصادية وأن تصبح الثورة مفتاح خير للمصريين. وهما توقع وطموح فشلا بامتياز، ولم تفلح كل صنوف الحوار السياسي أو الفني بين القاهرةوواشنطن في تصحيح هذا الفشل، بل لاحظ من في سلطة القرار المصري أن السلوك الأميركي اتخذ سياسات ذات طابع عدائي بالمعنى المباشر، من قبيل وقف العمل بالاتفاقيات المنظمة للمعونات، واتخاذ قرار من جانب واحد بأن تصرف هذه المعونات في أنشطة سياسية مباشرة ومن دون علم الحكومة المصرية، وهو ما كشفته وثائق «ويكليكس»، خصوصاً القرار الذي اتخذته وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون بأن تحول أموال المعونات المفترض أنها مخصصة لأنشطة تنموية واجتماعية تشرف عليها الحكومة المصرية، إلى أنشطة سياسية تتولاها منظمات أميركية في مصر، وأن تحصل هذه المنظمات على الأموال بطرق ملتوية حتى لا تلاحظها الحكومة المصرية. في هذا السياق كان واضحاً أن التخاذل الأميركي في دعم مصر الجديدة راجع إلى الرغبة في ممارسة ضغوط على المجلس العسكري الذي يدير شؤون البلاد منذ إطاحة الرئيس السابق حسني مبارك، وإلى جعل عملية التحول الديموقراطي في مصر تحت إدارة عسكرية موقتة عالية الكلفة، بل تؤدي إلى إفقار مصر عملياً، وإلى التعجيل بنقل السلطة إلى قوى سياسية تبلورت بعد الثورة وتعتبر حليفاً طبيعياً للولايات المتحدة. وكان واضحاً أيضاً أن الولاياتالمتحدة لم تكتف بالضغط السلبي، بل تحولت إلى ضغط نوعي إيجابي عبر حركة مدروسة للتأثير في مجمل العملية السياسية في مصر، ومن دون أي تشاور أو تنسيق مع المجلس العسكري أو الحكومة المصرية. أما الأمر الثاني فتعلق بما لاحظته السلطات المصرية من سلوكات أميركية تعمل لتوجيه المسار السياسي ناحية معينة تخدم المصالح الأميركية ومصالح القوى التي تتحالف فكرياً وأيديولوجياً ومصلحياً مع واشنطن قبل القاهرة. وعند ذاك بدا أن لا مفر من إدارة العلاقة مع الولاياتالمتحدة بأسلوب الأزمة، أو ما يمكن أن نطلق عليه أسلوب التوتر المنضبط. إذا وضعنا الاعتبارات والعناصر السابقة مجتمعة لأصبح لدينا نموذج كلاسيكي في إدارة الأزمات الدولية المنضبطة، أو التوتر المتحكم فيه من طرفيه. وإذا لاحظنا التصرفات الأميركية الأولى حين تبلورت ملامح الموقف المصري في الضغط المتتالي على المنظمات الأميركية غير القانونية في مصر، لوجدنا أنها كانت في قمة العنجهية والغطرسة، كان هدفها منع مصر من تحويل القضية إلى القضاء وتسويتها بين التنفيذيين من البلدين، وقامت على أساس توجيه الإنذارات المتتالية بأن مصر ستخسر كثيراً، وأن لا معونات عسكرية أو اقتصادية قبل حل هذه القضية، وأن لا أحد في واشنطن يقبل أن يحاكم مواطن أميركي أو يدان أو حتى يدخل القفص أثناء المحاكمة. حدود الضغط ومع الإصرار المصري على السير في الإجراءات القضائية وصولاً إلى بدء المحاكمة فعلاً قبل أن تتنحى المحكمة لما وصف بالاستشعار بالحرج من الاستمرار في القضية، إذا بالسلوك الأميركي يتغير بنسبة كبيرة ليتحدث عن عدم الرغبة في إيذاء علاقات إستراتيجية أو خسارة بلد كبير ومؤثر بحجم مصر، وأن من المهم أن تكون هناك حلول سياسية للموقوفين الأميركيين والممنوعين من السفر. الآن نستطيع القول إن تبدل الموقف الأميركي كان دليلاً على أن أسلوب الضغط لم يفلح تماماً، وأن أسلوب الترضية والتسوية هو الأكثر حكمة. ونستطيع القول أيضاً إن الجانب المصري تجاوب في شكل أو آخر مع مثل هذا التحول، والذي تضمن في جانب منه حرصاً على استمرار العلاقة بين البلدين، وفي عمقها استمرار المعونات العسكرية والاقتصادية من دون أن تكون مصحوبة بضغوط مباشرة أو ممارسات بعيدة من أعين الحكومة المصرية. ثمة تسوية حدثت بالفعل لا سبيل لإنكارها، فقد سُمح للأميركيين والأجانب بالسفر بعد دفع كفالة، وهو ما يعني أن القضاء سيستمر في محاكمة هؤلاء غيابياً، والمرجح وفي ضوء طبيعة الاتهامات والأدلة المختلفة التي أعلن عنها، ستكون هناك عقوبات على مصريين وعلى الأجانب معاً، والذين سوف يُمنع دخولهم مصر لاحقاً. وهو أمر طالما رغبت فيه الحكومة المصرية وأجهزة سيادية كثيرة. وربما لاحقاً تُسوى وضعية المنظمات الأميركية المدانة ولكن بعد صدور قانون جديد من مجلس الشعب (البرلمان) المصري الذي يهيمن عليه الإسلاميون في شأن تنظيم عمل الجمعيات الأهلية والمنظمات المدنية. واستطراداً يمكن القول إن الجانب الحكومي المصري وإن كانت صورته اهتزت أمام الرأي العام، ولم يعد ذلك المقاتل الشرس أمام قوة جبارة عاتية، فإنه حقق بعض المكاسب ذات الطبيعة الممتدة، فقد أرسل رسالة قوية بأن أجهزة الدولة رغم كل الضغوط التي تعرضت لها في العام الماضي لم تكن نائمة أو غائبة عن الوعي كما تصور البعض. ربما كانت هذه الأجهزة مغمضة العينين قليلاً لكنها تعي تماماً ما يجرى على الأرض، وأنها في الوقت المناسب تتحرك سواء لمواجهة القوة الخارجية أو الأعوان المحليين. ويمكن للمراقب أن يتابع سلوك عدد من المنظمات الحقوقية ورموزها الكبيرة، وسيكتشف أن الرسالة ذاتها وصلتهم أيضاً. * كاتب مصري