يدخل العالم مرحلة متقدمة في حروب الافكار، ويقوم صناع الحروب بخصخصة الحرب كتجارة مربحة، وتجزئتها الى حروب خاصة، تعتمد في فلسفتها على النزاعات الأفقية المغلفة برايات سياسية متعددة، ما يخلق بيئة العداء المجتمعي، وسيادة مناخ العسكرة وصناعة الارهاب التجاري، وإرساء فلسفة هدم الاوطان، وبذلك يحقق الولوج السهل من الداخل عوضاً عن استخدام الجيوش النظامية والحروب الكبرى، ويلاحظ انهيار النظام الدولي واحتضار القانون وتطبيق العدالة، وتحولت الدول الفاعلة الى عناصر هدم منظم، ضمن فلسفة التنافس وسياسة الوصول، ولم تعد مصالح الدول حاكمة كقاسم مشترك دولي يحدد مسار النظام الدولي، وينعكس ذلك على المنظمات والتحالفات الاقليمية التي لم تعد فاعلة في رسم مسار الاحداث العالمية، بل نشهد حروباً وسط الشعب تصنع بعناية تصاحبها انتهازية سياسية عابرة لمنظومات القيم ومعايير التحسب الاستراتيجي، وأضحى العالم العربي يغرق في حروب أفقية تزحف بلا توقف الى الرقع الخضراء بالتوالي وفق نظرية الدومينو. لقد اتجه العالم بعد تسعينات القرن المنصرم الى ملحمة الفناء القيمي، ويعتنق تجار الحروب عقائد مختلفة، يستخدمونها في حقل التجارب العربي. ولعل ما يثير الريبة تجانس المشهد الحالي مع تنظير صموئيل هنتنغتون في 1993 الذي أشعل نقاشاً مستعراً حول العالم في العلاقات الدولية بنشره في مجلة «فورين أفيرز» مقالاً شديد الأهمية والتأثير بعنوان «صراع الحضارات»، يناقض نظرية سياسية أخرى متعلقة بديناميكية السياسة الجغرافية بعد الحرب الباردة لصاحبها فرانسيس فوكوياما في كتابه «نهاية التاريخ». وقام هنتنغتون بتوسيع مقالته إلى كتاب صدر في 1996 للناشر سايمون وشوستر، بعنوان «صراع الحضارات وإعادة صياغة النظام العالمي». المقالة والكتاب عرضا وجهة نظره التي تتلخص بأن صراعات ما بعد الحرب الباردة ستحدث أكثر وأعنف ما يكون على أسس ثقافية (غالباً حضارية مثل الحضارات الغربية، الإسلامية، الصينية، الهندوسية) بدلاً من الأسس العقائدية، كما كان الحال خلال الحرب الباردة ومعظم القرن العشرين، اي توسيع الصراع أفقياً والتحول بين صراع الاقطاب الى صراع الاطراف، وبلا شك انها أفكار شيطانية ضمن حرب الأفكار التي يخوضها محاربون أيديولوجيون لترسيخ هذه العقائد الهدامة. وخلاصة ما ذهب اليه هنتنغتون هو أنه كي نفهم النزاع في عصرنا وفي المستقبل يجب فهم الخلافات الثقافية، وأن يتم قبول الثقافة (بدلاً من الدولة) كطرف وموقع للحروب، «وهذا يفسر الحروب المذهبية والطائفية في عالمنا العربي الاسلامي». ويحذر هنتنغتون الأمم الغربية من فقدان زعامتها إذا فشلت في فهم الطبيعة غير القابلة للتوفيق للاحتقانات المتنامية حالياً، وهنا يؤكد هذا المفكر كيف تنحر الدول باستخدام حرب الافكار وصراع العقائد الافقية العابرة للقيم الدينية والانسانية والوطنية، وكيف أن هذا التغيير في البنية السياسية الجغرافية يتطلب من الغرب أن «يقوي نفسه داخلياً ويتخلى عن عالمية الديموقراطية والتدخل المُلِحّ». أما ميلتون فريدمان فهو منظر اقتصادي أميركي يهودي الاصل، يعتنق نظرياته عدد من الرؤساء والسياسيين والباحثين، وتعتمد نظريته الاقتصادية على «ان العالم لا يحتاج الى نظم واتفاقيات أكثر لإصلاح هذا او ذاك، وان التدخل الحكومي في السوق والأسعار يؤدي الى فروض وتقييدات. وهو بلا شك يتكلم عن اقتصاد دولة كبرى من دون الالتفات الى اقتصاد الدول النامية او دول العالم الثاني، التي جعل منها مسارح محتملة لنظريته التي تلغي النظرية الدولاتية. ولعل ما سمّته نعومي كلاين «نظرية الصدمة» وقد أوضحتها بثلاث صدمات: الاولى الصدمة بالحروب والنزاعات والتفجيرات والتعذيب والكوارث وغيرها، وغالبيتها صناعة منظمة تعتمد خلق بيئة الأحداث وتوظيف صدمة المجتمعات والدول. والثانية من خلال الشركات والسياسيين الذين يستغلون الخوف والضياع الناتج من الصدمة الاولى من أجل فرض صدمة اقتصادية. والثالثة صدمة على أيدي عناصر الشرطة والجنود والمحققين لقتل مقاومي الصدمة الثانية. وقالت نعومي كلاين، مؤلفة كتاب «عقيدة الصدمة» انها زارت العراق من أجل الحصول على المعلومات. وتحدثت عن القمع والتعذيب هناك، مؤكدة ان الامر يتعدى ذلك وما يجري في العراق يرتبط بإنشاء وطن وفقاً لأنموذج جرى اختياره من صانعي الحرب يتم فيه محو شخصية الانسان في محاولة إعادة بنائها من عدم. وهنا تكمن الصدمة الافقية التي تستهدف المجتمعات وإخضاعها للموت الصادم المصنّع في أروقة صناعة الارهاب وتجارة الأمن، وقد نفذت تلك العقيدة في أكثر من عشر دول ضمن فترة زمنية 8-10 سنوات وفشلت كل أدواتها وانتهت بكوارث لحقت بمعتنقيها على أثر الهيجان والسخط الشعبي وتغيير الانظمة الصدموية. لعل التغيير المحوري في فلسفة الدولة والصراع الشرس بين نظرية الفوضى الهدامة ونظرية الدولة يدخل ضمن حرب الأفكار وقد أخذ منحى آخر. وأضحت لوحة الفوضى الدولية المعتمدة على نسف الفكر السياسي والنظم السياسية والدول أنها هي السائدة مع التشبث بالواقعية المزيفة التي يمكن وصفها بعمليات تجميل الفشل والانهيار من جهة وتضليل منظم يمارس لتمرير الافكار الشاذة وتبرير الحروب. لقد أثقلت المدرسة الواقعية العالم بالحروب التجارية الدموية، وهي تمارس الهروب الى الأمام تحت مسمى البراغماتية، وقد صنعت ظواهر وأزمات متفاعلة مركبة أدخلت العالم في شبكة أنفاق استراتيجية حالكة الظلام، ولعل فلسفة خصخصة الحرب والأمن قد تركت تأثيراً كبيراً في رسم الاستقرار السياسي والأمني في كل الدول، بل وتخطت قيم الردع المتبادل والتوازن الدولي، وأضحت تفتش عن الاضطراب، بل وغالباً تصنع بيئته وتهيئ مناخه، لتفتح أسواقها المتعددة. ولم نشهد طوال العقدين الأخيرين حلولاً تحاكي الاستقرار والسلم الدوليين، بل على العكس جرى استخدام القوة والحروب الخاصة وإذكاء النزاعات المجتمعية الافقية بغية استمرار سوق الحرب الزاحف الى كل الرقع الآمنة في العالم.