قبل شهور عدة قامت نيابة حوادث جنوبالقاهرة بالتحقيق مع مجدي الشافعي وهو مؤلف أول رواية مصرية مصوّرة لسؤاله في محضر جنح بخصوص راويته «مترو» الصادرة عن دار ملامح للنشر وهي دار تركز جهدها على تقديم ما تراه مغايراً لاتجاهات النشر الأدبي السائدة في مصر. حينذاك لم يكن أكثر المتشائمين بإمكانه أن يتخيل أن التحقيق قد ينتهي بمحاكمة جرت وقائعها حديثاً لتضع الكاتب والناشر في موضع الاتهام بدلاً من الاحتفاء بالرواية التي قد تكون أول رواية «غرافيك مصورة» في الأدب المصري المعاصر. والمستغرب أن الكاتب وجد نفسه محاصراً بجملة من الاتهامات أولها: «صنع وحيازة وعرض مطبوعات ورسوم يدوية وإشارات رمزية بقصد الاتجار والتوزيع والعرض تتضمن ألفاظاً خادشة للحياء العام». لكن الأغرب أن التحقيق تحرك بناء على محضر تحريات انجزتها الشرطة ودار حول عبارات يراها ضابط الشرطة أنها خادشة للحياء أو تتضمن إسقاطات سياسية. والعبارات مكتوبة بالعامية المصرية، وعلى رغم فجاجتها إلا أنها من العبارات الموجودة في قاموس الحياة اليومية والمتداولة لا سيما في أوساط الشباب الذين ابتكروا لغة تعينهم على التحايل والقفز فوق محظورات سياسية واجتماعية كثيرة. وتبين أثناء التحقيقات التي تابعتها مراكز حقوقية كثيرة أنه تم ضبط 118 نسخة من الرواية من مكتبات مختلفة بمعرفة رجال الشرطة. ووفقاً لبيانات تلك المراكز فإن النيابة استندت في تحقيقها على مادتين في قانون العقوبات المصري تنص واحدة منها على «أن يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنتين وبغرامة لا تقل عن خمسة آلاف جنيه ولا تزيد على عشرة آلاف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من نشر أو صنع أو حاز بقصد الإتجار أو التوزيع أو الإيجار أو اللصق أو العرض مطبوعات أو مخطوطات أو رسوماً أو إعلانات أو صوراً محفورة أو منقوشة أو رسوماً يدوية أو فوتوغرافية أو إِشارات رمزية أو غير ذلك من الأشياء أو الصور بعامة إذا كانت خادشة للحياء العام». وتقدمت بعض المراكز الحقوقية نيابة عن الناشر محمد الشرقاوي، المدير التنفيذي لدار «ملامح للنشر» بالطعن في قرار المستشار رئيس محكمة جنوبالقاهرة الأبتدائية، الذي أيد إجراءات ضبط الرواية ومصادرتها. وفي الحقيقة تصعب متابعة هذا الملف من دون التوقف أمام جملة من الأمور، منها: الإقرار بأن اقتحام دار النشر تم في البداية من دون إذن من النيابة العامة بالتفتيش، ومن ثم فهو إجراء غير قانوني، أما مصادرة الرواية فهي انتهاك صارخ لحرية التعبير كما أشارت إلى ذلك بيانات المراكز الحقوقية. والمؤكد أيضاً أن ما جرى للرواية من ملاحقة من الصعب قراءته بمعزل عن مناخ عام تعيشه الثقافة المصرية أنتج في الأعوام العشرة الاخيرة مجموعة من المحامين وبعض رجال الدين الذين يستخدمون حق التقاضي إما لأغراض إعلامية تدفع بهم إلى دوائر الضوء والشهرة أو لأسباب سياسية. ومن الأمور ذات الدلالة في تلك القضية أن المحامي الذي حرّك البلاغ ضد الرواية من المحامين المنتمين إلى الحزب الوطني الحاكم والمعروف بملاحقته الصحافيين والمعارضين السياسيين بقضايا الحسبة السياسية»، وهو نفسه الذي حرّك من قبل إحدى قضايا الحسبة السياسية ضد رئيس تحرير جريدة «الدستور» المستقلة الصحافي إبراهيم عيسى. وتصعب قراءة ملف الملاحقة القضائية للرواية بمعزل عن محاولات استهداف ناشرها وهو أحد الناشطين في حركة كفاية، وقد جرت محاولات عدة لاعتقاله، آخرها في العام الماضي على ذمة القضية التي عرفت إعلامياً ب «إضراب السادس من نيسان (إبريل)» الذي دعا إليه ناشطون على موقع «الفيس بوك» الالكتروني. وعلى المستوى الفني بات من المؤكد بعد عام من صدور الرواية أنها لم تجد استقبالاً مهمّاً في الأوساط الأدبية التقليدية اذ ظلت الحفاوة بها مقتصرة على جيل معين من قراء الأدب، وهو الجيل المعني بنتاجات «عصر الصورة» والساعي إلى ابتكار وسيط أدبي له القدرة على استثمار التحديات التي فرضتها الوسائط الالكترونية على الأدب بمفهومه التقليدي. فالرواية كما جرى تقديمها في الكثير من المواقع الالكترونية والمدونات السياسية التي احتفت بمضمونها بأنها أول رواية مصرية مصوّرة للكبار، وهو نوع من الكتابة لم تعرفه مصر من قبل يسمى «غرافك نوفل». وبحسب تلك المواقع الالكترونية فإن هذا النوع من الروايات تتمتع في أوروبا والولاياتالمتحدة بشعبية كبيرة جداً كأحد فنون التعبير التي تنتمي الى «البوب آرت» التي تمتد جذورها إلى خمسينات القرن الماضي والتي سعت إلى تصوير مظاهر الحياة اليومية والأحداث، وعوالم الاستهلاك من خلال الرسوم». وبداية هذا النوع من الكتابة المصورة أطلقها، وفق تصريحات للمؤلف، رسامو الكاريكاتير الفرنسيون في مجلة «هيراكاري الهزلية»، وكانت مجلة جريئة لدرجة أن أحد رسومها قدّم شارل ديغول وهو يضاجع امرأة تمثل فرنسا، ما أدى إلى وقف المجلة. وبعد ذلك انتشر فن السرد من خلال الرسم وظهرت روايات من هذا النوع، وحملت الواحدة منها اسم «الألبوم». وحملت اسم «غرافيك نوفل» في الولاياتالمتحدة، وكان أول ظهور لها في فترة الخمسينات في مجلة «هيفي ميتال». أما التجارب العربية في هذا المجال معظمها مكتوب بالفرنسية أو الإنكليزية ومنها تجربة الجزائري علي موسى عام 1980 وقد حملت عنوان «غوغورتا»، وصدرت بالفرنسية. وآخرها تجربة اللبنانية جمانة ميدريج «ملاك السلام» الصادرة بالإنكليزية في نهاية العام ما قبل الماضي. أما التجارب التي صدرت بالعربية مباشرة فلم تتعد على صفتها قصصاً مصورة أو تسجيلاً لمواقف قصيرة من خلال مشاهد مرسومة. ومن يتابع سيرة كاتب الرواية يجد أنه من أبرز المرسخين لهذا الفن، إذ سبق له أن أشرف على إعداد ورش عمل لفن القصص المصورة أو ما يطلق عليه «غرافيك نوفل»، وقد شجّعه على كتابة الرواية الرسام والمصمم الغرافيكي محي الدين اللباد الذي تابع بعض القصص المصورة التي قدّمها الشافعي في الصحف المصرية، خصوصاً صحيفة «الدستور» المستقلة التي أولت حديثاً اهتماماً بهذا النوع الفني لاستثمار طاقته الاحتجاجية إلى جانب طابعه الساخر الذي يجتذب الفئات الشابة. أما الرواية التي يهديها كاتبها إلى «المدونين المصريين» فحافلة بالإسقاطات السياسية المباشرة التي يجرى تمريرها من خلال متابعة قصة مهندس الكتروني حانق على النظام الاجتماعي والفساد المنتشر في مصر ويسميه «النفق». وفي محاولته للاعتراض على تلك الأوضاع يرتكب جريمة سرقة من أحد المصارف!! لكن صديقه الذي استعان به وهو ابن منطقة عشوائية يغدر به ويقوم بتهريب الأموال المسروقة والسفر خارج البلاد. وفي سياق مواز تسلتهم الرواية في موضوعها الكثير من الوقائع التي حدثت في مصر حديثاً وارتبطت بقضايا الفساد وتظاهرات الاحتجاج السياسي عبر شخصية «دينا» الصحافية، صديقة البطل، التي تتعرض للتحرش الجنسي خلال مشاركتها في تظاهرات منددة بالتعديلات الدستورية في مصر عام 2005، وتسعى بمعاونة البطل لكشف لغز جريمة قتل ارتكبت بحق أحد المقاولين أوصى قبل قتله بفضح من سماهم «الخيالة»، وذلك في إشارة إلى مجموعة فاسدة من كبار رجال الأعمال. وتنتهي الرواية بمحاولة من البطل وصديقته وهما في محطة تحمل اسم الزعيم الراحل جمال عبدالناصر (لاحظ دلالة اختيار تلك المحطة بالذات) للخروج من «النفق» بينما يظل الخيالة خارجه. يتبع المؤلف في السرد تقنية أقرب إلى الحبكة البوليسية، إذ تأتي غالبية الأحداث في تدفق لافت وترتبط في الآن نفسه بمحطات «مترو» أنفاق القاهرة التي تستغل كفضاء روائي، مع استثمار الدلالة السياسية والاجتماعية والطبقية لأسمائها، فالأحداث التي تجري في محطة تحمل اسم الزعيم سعد زغلول تنتج دلالات مختلفة عن تلك التي تجرى في المحطة التي تحمل اسم «مبارك». والرواية في هذه الحال لا تُقرأ إلا بصفتها عملاً احتجاجياً في الدرجة الأولى تبقى قيمته محصورة في السبق التاريخي وليس في المنجز الفني. فصاحبها فضلاً عن مغامرته في اقتحام المحظور الرقابي، غامر كذلك باقتحام المحظور الفني عبر تقديم رواية مصورة قد تكون الأولى عربيّاً في هذا المجال.