"محمد الحبيب العقارية" تدخل موسوعة جينيس بأكبر صبَّةٍ خرسانيةٍ في العالم    "دار وإعمار" و"NHC" توقعان اتفاقية لتطوير مراكز تجارية في ضاحية خزام لتعزيز جودة الحياة    البصيلي يلتقي منسوبي مراكز وادارات الدفاع المدني بمنطقة عسير"    مصرع 12 شخصاً في حادثة مروعة بمصر    ماجد الجبيلي يحتفل بزفافه في أجواء مبهجة وحضور مميز من الأهل والأصدقاء    رؤساء المجالس التشريعية الخليجية: ندعم سيادة الشعب الفلسطيني على الأراضي المحتلة    قرارات «استثنائية» لقمة غير عادية    «التراث»: تسجيل 198 موقعاً جديداً في السجل الوطني للآثار    رينارد: سنقاتل من أجل المولد.. وغياب الدوسري مؤثر    كيف يدمر التشخيص الطبي في «غوغل» نفسيات المرضى؟    عصابات النسَّابة    «العدل»: رقمنة 200 مليون وثيقة.. وظائف للسعوديين والسعوديات بمشروع «الثروة العقارية»    محترفات التنس عندنا في الرياض!    رقمنة الثقافة    الوطن    فتاة «X» تهز عروش الديمقراطيين!    ذلك «الغروي» بملامحه العتيقة رأى الناس بعين قلبه    هيبة الحليب.. أعيدوها أمام المشروبات الغازية    صحة العالم تُناقش في المملكة    المالكي مديرا للحسابات المستقلة    استعراض جهود المملكة لاستقرار وإعمار اليمن    وصول الطائرة الإغاثية السعودية ال 23 إلى لبنان    أسرة العيسائي تحتفل بزفاف فهد ونوف    بحضور الأمير سعود بن جلوي وأمراء.. النفيعي والماجد يحتفلان بزواج سلطان    أفراح النوب والجش    الطائرة الإغاثية السعودية ال 23 تصل إلى لبنان    أكبر مبنى على شكل دجاجة.. رقم قياسي جديد    استعادة التنوع الأحيائي    الطائف.. عمارة تقليدية تتجلَّى شكلاً ونوعاً    الخليج يتغلّب على كاظمة الكويتي في ثاني مواجهات البطولة الآسيوية    لاعبو الأندية السعودية يهيمنون على الأفضلية القارية    «جان باترسون» رئيسة قطاع الرياضة في نيوم ل(البلاد): فخورة بعودة الفرج للأخضر.. ونسعى للصعود ل «روشن»    تعزيز المهنية بما يتماشى مع أهداف رؤية المملكة 2030.. وزير البلديات يكرم المطورين العقاريين المتميزين    حبوب محسنة للإقلاع عن التدخين    أجواء شتوية    المنتخب يخسر الفرج    رينارد: سنقاتل لنضمن التأهل    ترامب يختار مديرة للمخابرات الوطنية ومدعيا عاما    قراءة في نظام الطوارئ الجديد    فيلم «ما وراء الإعجاب».. بين حوار الثقافة الشرقية والغربية    «الشرقية تبدع» و«إثراء» يستطلعان تحديات عصر الرقمنة    «الحصن» تحدي السينمائيين..    الرياض .. قفزات في مشاركة القوى العاملة    مقياس سميث للحسد    أهميّة التعقّل    د. الزير: 77 % من النساء يطلبن تفسير أضغاث الأحلام    كم أنتِ عظيمة يا السعوديّة!    التقنيات المالية ودورها في تشكيل الاقتصاد الرقمي    السيادة الرقمية وحجب حسابات التواصل    العريفي تشهد اجتماع لجنة رياضة المرأة الخليجية    الذاكرة.. وحاسة الشم    السعودية تواصل جهودها لتنمية قطاع المياه واستدامته محلياً ودولياً    أمير المدينة يتفقد محافظتي ينبع والحناكية    وزير الداخلية يرعى الحفل السنوي لجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية    محافظ الطائف يرأس إجتماع المجلس المحلي للتنمية والتطوير    نائب أمير جازان يستقبل الرئيس التنفيذي لتجمع جازان الصحي    محمية جزر فرسان.. عودة الطبيعة في ربيع محميتها    إضطهاد المرأة في اليمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



علي القرني: المؤسسة التعليمية عندنا ذيولها الفكرية كثيرة ولا تبتعد عنها الذنوب!
نشر في الحياة يوم 01 - 10 - 2013

ميدان التربية والتعليم كون وحده يموج بالكثير من الأطروحات والدراسات والنظريات والفتن أيضاً!
من المدارس تعرف ماهية المجتمعات وما هي عليه وماذا ينتظرها..
ضيفنا الدكتور علي القرني، تشرب التربية والتعليم منذ صغره، كان والده لا يعترف بالإجازة الصيفية، فيجعله بين حقل زراعي وحلقات تحفيظ، عاش الفراق واللوعة باكراً، وخاض الصراع تلو الصراع، ليكتشف ما حوله ويقدم ما عنده. لا يوجد باب في التربية والتعليم لم يطرقه، أو يجلس على كرسيه، خاض التجارب المحلية والدولية، الحكومية والأهلية، وفي كل مكان ترك بصمة وراءه تسجل باسمه.
علي القرني ماركة تربوية، سعد الخليج به ونصّبه مديراً للتربية في دوله، عنده الكثير، لكنه وكعادة المحافظين يرون التريث والانتظار، لعل الفرصة تكون أفضل وأكثر جودة وتأهيلاً.
يزعجه كثيراً تفرد وزارة التربية بالتعليم وحدها، وكأن المجتمع لا همّ له بذلك، ويرى أن «تويتر» كشف الستار عن الكثير، ولا يزال يكشف أكثر.. حوارنا مع أبي بدر، بدر تمام التربية، وكمال الحرف والمعنى.
الجغرافيا ما مدى أثرها في المكوّن الفكري عندنا؟
- قد تكون الجغرافيا على رأس سلم العوامل التي تحدّد مدى عمل بوصلة العقل، وتغرس بذور الإيمان والالتزام، وتؤسس لبناء الأخلاق والقيم عند الإنسان. إنها مصدر الغنى الحقيقي للفكر، ولا يكون الاغتناء إلا بها، مثلما لا يمكن الاستغناء عنها بغيرها. باختصار الجغرافيا أم المواطَنة، ومرضعة فكر المواطن.
بين المدن وتنقلاتك في الداخل والخارج فيها، ماذا تغيّر في جيناتك؟
- لعل جين الدهشة هو المتغير الأكبر. أظنه فقد قدرته الوظيفية في داخلي، فلم أعد عرضة للانبهار ولم يعد يستهويني بذخ المدائن وتباين الأمصار. تهاوت المسافات، وتماثلت أجزاء الصورة، وبت بارداً إزاء ما أحدثه الإنسان. أضحى العالم مصنوعاً، إلا أن الشمس لم تزل تشرق من المشرق، وهو فقط ما يشعرني بأن للحياة بقية.
هل هناك شيء مسلوب من طفولتك؟
- قد تكون الطفولة كلها. لا أذكر شيئاً قبل الابتدائية. ربما كنت أثيراً جداً عند الجدات والوالدين وأخواتي، إذ كنت الابن الذكر الأول في العائلة، إذ توفي أخي الأكبر محمد في طفولته. لكنني أذكر بعض صور حياتي بعد التحاقي بالمدرسة، إذ كنت مطالباً بالتميز من جهة، وكان لا بد من تقديم يد صغيرة للمساعدة في الفلاحة والرعي من جهة أخرى.
كان أبي، رحمه الله، لا يقتنع بالإجازة الصيفية. كان يراها طويلة ومضيعة لتحصيل سنة كاملة، فكان يأخذني على دابته إلى المدرسة السلفية في بلاد غامد على بعد مسيرة يوم، ويودعني هناك عند أحد معارفه، جزاه الله خير الجزاء ورحمهما جميعاً، وهناك أعيش كأحد أبناء هذه الأسرة الكريمة، أسرة الشيخ الشهم عبدالله الدعجاني في بلدة القرا. أقضي إجازة الصيف في دراسة القرآن الكريم وعلومه واللغة العربية، وهناك تعرفت على أعلام من طلبة العلم، منهم مثلاً إمام المسجد النبوي الشيخ علي الحذيفي.
ثم تقبل قافلة أبي الحبيب، فأطير معها فرحاً بالعودة إلى أحضان أمي وبدء عام دراسي جديد من دون إجازة. إجازة؟ ماذا تعني هذه الكلمة؟ لو سألت أبي لأجابك بأنها تعني الضياع.
ماذا بقي من الطفولة؟ أنهيت المرحلة الابتدائية، وبدأت مرحلة العزوبية في سن الحادية عشرة أغسل ثوبي وأحضر طعامي. كان لا بد من ترك الأهل والسفر في تلك السن الباكرة، بحثاً عن مدرسة متوسطة، واستمرت العزوبية إلى أن بلغت ال26 تقول هل سلب مني شيء من طفولتي؟
السور والحارس
ماذا لزمك لتشب عن الطوق وتقفز السور وتتغافل الحارس؟
- لا شيء سوى تحفيز الذات والثقة ورضا الوالدين وحسرة الطفولة، وحشرجة اليفاع، وبرودة العرق. بهذا العتاد سارت حياتي، لكنني لم أقفز سوراً ولم أتغافل حارساً بالمعنى القريب. ما زلت قريباً من الأرض، فلا أحتاج القفز ولا حاجة لي بدخول باب يقف على جنباته الحراس.
بدأت حياتي وستنتهي إن شاء الله لم تفسدني مواقع وظيفية، ولم يشغلني جمع المال ولم يسري إلى قلبي الحسد لمن تغافل عنه الحارس أو تقاصر من أجل عينيه السور، على أن هناك حارساً يتربص بي هو الحارس «المثالي» الذي خادعني كثيراً على رغم محايلتي الدؤوبة له. إنه حارس الجرأة في ميدان القفزة الحرة عن سياج العرف الذي يتطاول على سور القانون ومنبر الواقع.
من المتضرر الأكبر من مفهوم المجتمع السعودي المحافظ؟
- حينما نطلق النعوت على المجتمعات بين محافظ ومتحرر، تنبري أمامنا الكثير من التناقضات التي تجعلنا نتجرع السؤال ولا نكاد نسيغه. السؤال عن سمات المحافظة سؤال محير يجعلني دائم البحث عن مصطلح أقرب للواقع، إذ انتقل مجتمعنا في العقود الماضية بين محطات من التطور إلى أخرى بكامل وعيه تارة، ومن دون وعيه تارة أخرى.
كثير من سمات المحافظة تم تجاوزها، وكثير من السمات الجديدة تم تبنيها، وبين هذه وتلك اكتسبت بعض الرؤى والتأولات سمة القطعية، مع أنها لا يفترض أن تكون كذلك. ولو سألت اليوم إنساناً سعودياً عادياً مثلي عما يعني له المجتمع المحافظ، لبرز في الذهن الالتزام بالقيم النبيلة والأخلاق الكريمة.
غير أن دائرة القيم والأخلاق تتسع أحياناً لتسوغ ممارسات لا يقبلها ديننا، وتضيق أحياناً لتقف أمام ممارسات لا يرفضها الدين، وهذا ما يجعل الناس، خصوصاً النشء والشباب يقفون حيارى أمام متناقضات أوجدها نعت المحافظة الذي يطلق على مجتمعنا.
إن أكثر المتضررين من مفهوم المجتمع المحافظ هو المجتمع نفسه حين يرفض تغييرات يفرضها تطور الحياة، ثم لا يلبث أن يقبلها بعد فوات الكثير من الوقت والتأخر عن ركب الحضارة. ما أريد الوصول إليه هو ألا نتشبث كثيراً بنعوت المحافظة والليبرالية، خصوصاً في مجتمعنا، إذ تداخلت الدوائر وأصبح من الواجب على السعودي أن يكون محافظاً أمام ما يتعارض مع الدين وليبرالياً في البحث عن النافع والمفيد والانفتاح على العلم والحضارة التي يقوى بها الوطن.
هوية المجتمع السعودي
هوية المجتمع السعودي لم لا نراها بوضوح؟
- ربما لأنها «شفّافة». وربما كانت تنقصنا «الفضة»، لنقف وجهاً لوجه أمامنا، فنرانا في مرايانا العطشى لنا.
لماذا ضجيجنا عالي النبرة لكنه كلام في الهواء؟
- لأننا انتبذنا في صحارى غير محدودة بقوانين الصوت والصدى، فكانت موجات أصواتنا أطول مما ينبغي، فسافرت بعيداً في الفراغ.
هل تظن أن التعليم في السعودية له دور كبير في سوء العلاقة بيننا وبين الآخر؟
- نحن أبناء تعليمنا، وتعليمنا ابن جغرافيتنا، وجغرافيتنا ابنة خلايانا، ولكل في هذا العالم ما يؤطره حياةً وسلوكاً. ويفترض في التعليم أن يكون نبع الحياة السويّة، ومعين السلوك القويم. وأعتقد أن تعليمنا مفصّل على قياسنا، وليس فضفاضاً، بحيث يبني جسوراً ممتدة من العلائق مع من حولنا، تقوم على القبول، والتفاعل الإيجابي معه.
خصخصة التعليم عندنا، هل تتوجس منها، أم تراها مكبلة أكثر من اللازم؟
- الخصخصة تعني اختزال العام، وكلما صغرت مساحة العمل، ازدادت فرص الإتقان، وقلت الأخطاء، وانكمش التسيب. لكن الخصخصة لا تكون سائبة، أو مرسلة على عواهنها. فإذا كانت مخرجاتها لا تختلف كثيراً عن العمومية، فهي عمومية مقنّعة، ودوران حول الخط المستقيم. الخصخصة خير لا بد منه، ليسهم القطاع الخاص الواعي في مسيرة التعليم، على ألا تجنح إلى الموانئ التجارية النهمة.
أقصد نموذج الربحية الذي تقوم عليه المدارس الأهلية وبعض الجامعات الأهلية في بلادنا. أعرف أنني هنا أقترب من حاجز شوكي مكهرب، غير أنني في سبيل مصلحة تعليمنا أقول إن معادلة الجمع بين الربح والتعليم النوعي المتطور هي من النوع الذي يستعصي حله. التعليم المتطور يحتاج إلى معلمين أكفاء راضين بوظائفهم ورواتبهم، وهذا المجال وحده يؤثر مباشرة في تحقق الربح لمالك المدرسة.
تقول لن تجد مستثمراً يرضى بوضع أمواله في مدرسة لا تحقق عائداً مالياً له، وأقول فليكن، فالمدارس الأهلية الربحية في التعليم العام ماركة سعودية وعربية مسجلة ابتكرناها وغفل عنها العالم.
هذه المدارس قادت إلى ممارسات خاطئة وكثير منها خادع ومضلل. لك أن تعرف أن نسبة الملتحقين بالمدارس الخاصة في أميركا مثلاً لا يتجاوز 10 في المئة، وفوق ذلك فإن جل المدارس التي تلتحق بها هذه النسبة الصغيرة هي مدارس غير ربحية.
ولا أعرف استثناء لهذا العدد القليل من الطلبة الذين يلتحقون بالمدارس الأهلية أو الخاصة في التعليم العام إلا في بلد مثل هولندا، إذ تشكل المدارس الخاصة 70 في المئة من مجموع المدارس الهولندية، ولكن مع فارق جذري في كيفية إدارة هذه المدارس الخاصة والإشراف عليها، إذ يحتم القانون على الدولة المساواة في الإنفاق عليها تماماً مثل المدارس الحكومية، مع فرض شروط لاستحقاق هذا الدعم، أهم شرط في نوعية التعليم.
لذا فمدارس هولندا الخاصة لم تنشأ لغرض الربح، وإنما لتقديم مناهج تعليمية وأيديولوجية مختلفة وفقاً لحرية اختيار التعليم التي يكفلها القانون، ولهذا لا مجال للمقارنة مع هولندا في خصخصة التعليم.
قد ينبري لحديثي هذا من يدحضه بحجة أن بعض المدارس الأهلية تفوقت على المدارس الحكومية، وهذا مدخل عسير للمقارنة تتحكم فيه متغيرات أخرى مثل ثقافة الأسرة والوضع الاقتصادي والاجتماعي وارتفاع قيمة التعليم لدى الأسرة وكثافة مشاركة الأسرة مع المدرسة، وهذه كلها متغيرات متقاطعة تؤثر في التحصيل قد تجعل تفوق المدرسة الأهلية ضرباً من الزعم ليس إلا. ولن أخوض في مستنقع تضخم الدرجات، فهو وحده يكفي للتوقف والتأمل كثيراً في تجربة التعليم الأهلي عند التفكير في الخصخصة.
هل تتوافر البيئة الاستثمارية الناجحة للتعليم الأهلي عندنا؟
- بالتأكيد، لدينا بيئة استثمارية ناجحة للتعليم الأهلي، بدليل أن مئات المدارس الأهلية تنتشر على مساحات كبيرة من الوطن، لكن المهم هو مدى أداء هذه المدارس للرسالة، ومدى إتقانها وضع رؤيتها التعليمية الضرورية للارتقاء بالمخرجات التعليمية. وأعتقد أن المشكلة تكمن في التجارة في التعليم.
المؤسسة التعليمية
المؤسسة التعليمة هل ذنوبها الفكرية كثيرة؟
- قل إن ذيولها الفكرية كثيرة، ومن كان بلا ذنب أو خطيئة، فليرجم غيره بحجر. ستبقى الحجارة ثابتة لا تمتد إليها الأيدي، ولا تبتعد عنها الذنوب.
هل من الممكن أن يحمل المنهج الدراسي وزر توجهات لفكر الفئة الضالة؟
- يفترض في المنهج الدراسي أن يكون حبر المتعلمين، الذي يكتبون به سطور حياتهم، لا خبز المتعلمين، الذي يبنون منه أكتافهم. بعض هذا المنهج لا يحمل طيّه، حبراً لكتابة سطور، ولا خبزاً لبناء أكتاف. هذا البعض يمحو ويهدم، ويحمل وزرنا جميعاً.
استقلالية المدارس هل تجد فيها متنفساً لحلول أكثر إنجازاً؟
- لا يمكن أن تتحقق استقلالية للمدارس، إلا إذا تحققت استقلالية للفكر الذي سيدير هذه المدارس، وللمتعلمين الذين سيرتادونها. مجرد إنشاء مدارس مستقلة لا يكفي لصنع حلول تعليمية بناءة. لا بد من النظر إلى الأمر بحلول عامة جذرية، تبدأ من البيت، مروراً بالشارع، ووصولاً إلى البناء المدرسي.
كيف أنت والتقسيم «ثقافة نخبوية» وأخرى «شعبية»؟ وكيف الحدود بينهما؟
- هذا التقسيم موجود شئنا، أم أبينا، لكن المهم هو في نوع هذه الثقافة وقياساتها. هناك فرق شاسع بين الثقافة المكتسبة، وثقافة العرف، التي عادة ما تهيمن على الثقافة الشعبية، وتكسبها هالة من القدسية، بغض النظر عن مدى صحة هذا الموروث، وأهمية وجوده، ومدى الاستفادة منه في البناء الناجع. والثقافة النخبوية كذلك، قد تكسوها الانتقائية، وتغلّفها الثقافة المفروضة، وفي الحالين كلتيهما، تخرج بأهلها عن المضمون الحقيقي للثقافة، الذي ينبغي أن يرتكز على أسس من الوعي والإحاطة بالأولويات، وبما يلزم المثقف من زاد لبناء مجتمعه ووطنه.
الصراع الفكري لماذا هو في أشده عندنا عن بقية دول الخليج؟
- ربما لأننا الأقرب إلينا، والأبعد عن غيرنا. وقد لا نذهب بعيداً إن قلنا إننا أكثر من غيرنا أسماءً ومسميات، والأبعد حدوداً وتحديداً.
ألا تشعر بأننا ننشغل بالصغائر ويكون خطابنا خطاباً عمومياً فلا يتحرك شيء حولنا؟
- نحن لا ننشغل بالصغائر، لكننا ننشغل عن «الكبريات»، وفي كل الأحوال نكون بعيدين عما ينبغي أن يكون. على أن ذلك ليس عاماً، فنحن في بعض الميادين متقنون وفاعلون، والحياة لا تستغني بالاقتصاد عن السياسة، ولا بالعلم عن الثقافة، ولا بالصناعة عن الزراعة وهكذا.
علينا أن نبحر في الحياة في خطوط متوازية في مختلف الميادين، لأن التراجع في خط واحد يعني أن تنتظرنا بقية الخطوط، أو تفشل في الوصول بنا إلى غاياتنا.
ننتظر كثيراً ونتريث أكثر. ألن نفقد الركب هكذا؟
- إذا كان الانتظار وسيلة للاختيار فهذا جيد، وإذا كان التريّث سبيلاً للإتقان فهذا رائع. أما إذا كانا فرضيْن مسلّميْن، فهذه كارثة ستجعلنا نفقد المدى كله، لا الركب وحده. نحن نعيش زمناً لا يتسامح مع الترهّل والبلادة، ولا يستقبل المتأخرين، لا بد لقفزاتنا أن تكون أبعد، أو – على الأقل – لخطانا أن تكون أوسع.
لو أردنا توزيع الأدوار لنحصل على حياة فكرية ناضجة بماذا نبدأ؟ وإلى أين ننتهي؟
- نبدأ بصياغة الإنسان، وننتهي بصقله النهائي. لا بد من «مأسسة» حياتنا، والبناء الواعي الفرد، بحيث لا نخرج من دائرة «كان أبي»، ونصل إلى «ها أنذا».
الرياضة والفن ألا تشعر بأننا لا نصنع منهما روافد للجيل بكل اختلافاته؟
- هذا صحيح، ولعل السبب يكمن في عدم تقديرنا لدور الرياضة والفنون في صناعة الأجيال. نحن لا نزال ننظر إلى الرياضة على أنها ميدان للفوز الذي نفرح به، وللخسارة التي تلفّنا بالحداد، وهذا خاطئ جداً.
الرياضة روح لا بد من العيش بها في موازاة الروح البشرية، لأنها رافد جسدي وعقلي لا مثيل له. أما الفن، فمن دونه سيول شرسة، كشراسة ذلك السيل الذي التهم كثيراً من خوفي، وأشيائي، وأنا في طريقي إلى مدرسة نائية ناتئة. ولن أنسى هنا الرياضة والفن النسويين، حتى وإن غضب مني مجتمعنا الذكوري الصلب!
الأكاديميون والمغفلون
هل ترى خيطاً رفيعاً بين الأكاديميين والمغفلين؟
- في زمن العلماء والمبدعين والمنجزين والمخترعين. نعم، لأن الأكاديمية وحدها تعني صرف النظر عما بعدها، والدوران حول الساقية بلا تفكير، ومن دون حساب للمسافات والأزمان.
في رأيك طلاب الجامعة يهتمون لأمر العلم، أم ينشغلون بما بعد العلم؟
- بعضهم يهتم لأمر العلم، وبعضهم ينشغل بما بعده، وهناك منهم من يوثق نفسه بما قبله. لكن بين طلابنا من يعمل بجد على الربط بين الجهات الثلاث، وهؤلاء هم المعوّل عليهم لبناء الغد الذي لا نزال نحلم به، ولا يزال ينتظرنا بشغف.
كيف تجد الصورة العامة لتفكير الطلبة الجامعيين لدينا؟
- كلوحة فسيفسائية، لا يمكن الوقوف على بداية لبنائها، ومعادلة لألوانها، فتعيش حالاً واسعة من التداخل، وإن كانت تبدو في هندستها غاية في التجانس، الذي قد لا يكون ضرورياً لصناعة اللوحة المثلى.
السرية عندنا تطغى على العلنية، هل هي من باب إن الله يغفر للكل إلا المجاهرين؟
- بل هي من باب «وإذا بليتم فاستتروا». حين تغلّف السرية أي عمل، فذاك يعني أن في العمل شائبة، أو أنه مبنيّ على غير هدى. لا يمكن الجهر إلا بالحق، مثلما لا يمكن الإسرار إلا بالمخيف، أو المعيب.
نشتكي من كثرة الرموز، وفي المقابل نشتكي من عدم حراكهم الصحيح؟
- فرق كبير بين الرمز والترميز. الرموز لا يستطيعون الحركة إلا في جو مريح من الحرية، وفي ظل وعي بالتاريخ، وإدراك يقظ للحاضر، وعمل متقن للمستقبل. قد نكون نحن من نحول دون حراكهم أحياناً.
الجماهير هل تجبر الكبار والقادة على عدم قول الحق؟
- هي تغريهم بذلك، ولا تجبرهم عليه، لأن الكبار أحرار في ما يفعلون، طالما أن السؤال عن «كيف، ولماذا، وفيم، وعمّ» غير وارد، أو غير متوقع.
لماذا وجود الأحزاب يشكل قلقاً في المجتمع الخليجي؟
- لأن المجتمعات الخليجية لم تتأهل بعد لتقبل الأحزاب. الأحزاب تنشأ عادة في مستوى مجتمعي عالي الوعي، قادر على الاختيار، وأمين على ما يختار. نحن لا نزال في حاجة إلى توضيح المشتبه، وأحياناً إلى توضيح الواضح.
لغة الخطاب الإسلامي لماذا هي متشنجة ومطبلة ومليئة بالزيف؟
- ليست لغة الخطاب الإسلامي. ربما تقصد لغة الخطاب «المتأسلم». هناك من الشيوخ وقادة الفكر الإسلامي من يمتلكون لغة خطاب شفيفة محببة، ويستطيعون استقطاب مستمعيهم، لكن الأغلبية تغرد في «تويترها» الخاص، ولا يعنيها مدى تقبّلها، أو الاستنكاف عنها، وهذه الفئة هي صاحبة اللغة المتشنجة التي لا ترى غيرها إلا ملكاً لها، أو تابعاً لفكرتها.
التيار العلماني لم الحياء يلفه من كل جانب عندنا؟
- لأنه حديث، تراه الأغلبية مستحدثاً. ولأن لفظة «العلمانية» استدعت عداءً غير عادي من التيار الإسلامي والسلفي، الذي بات ينظر إليها على أنها مروق أو عزوف. فبات العلمانيون ينظرون إلى الوراء باستمرار خوفاً مما ينتظرهم من ردود الأفعال. ولك أن تتصور خطى تسير إلى الأمام، بينما عينا صاحبها متسمّرة إلى الوراء!
هل صحيح أن الليبراليين عندنا أفسدوا الليبرالية علينا؟
- وربما أن الليبرالية أفسدتهم من دون قصد، لأنهم لبسوها من دون «تكييف»، فجاءت واسعة عليهم، وخجلوا من العودة عنها، أو خافوا من ضياعهم من دونها، واكتفوا بشبه ضياع فيها، وذلك خير لهم كما يرون.
الديكتاتورية أحياناً، أليست نجاة للشعوب؟
- الديكتاتورية لا يمكن الاستغناء عنها عند الشعوب التي تُقاد أبداً. وضريبة الديموقراطية عند مثل هذه الشعوب باهظة جداً، إذا قيست بالضريبة التي يدفعونها للديكتاتورية. مثل هذه الشعوب يصلح فيها القول «الربيع ضيّعت اللبن»!
الفكر والفلسفة، هل نتلمسها في المشهد الاجتماعي السياسي عندنا؟
- وزد عليهما الحنكة. نعم هذا صحيح.
هل تقوم علاقة العقل العربي مع الآخر على النفعية والمصلحة المادية من دون اهتمام بالفكر أو المعرفة؟
- هذه إجابة شافية عن السؤال علامَ تقوم علاقة العقل العربي مع الآخر؟
الخوف من الجديد
ألا تلحظ أنا نستريب من الجديد والمحدث؟
- هذه طبيعة البشر. لكل جديد بهجة، وفي كل جديد ريبة. ولعلّ أقرب مثال على ذلك مسيرة الشعر العربي منذ الجاهلية. فلا نزال تقرأ عن المعارك التي قامت زمن أبي نواس وأبي العتاهية، تماماً كتلك التي دارت زمن السياب ونازك الملائكة وقباني وباكثير، وكل ذلك بسبب التجديد، الذي ما يلبث أن يصبح عاماً وضرورياً ومميزاً.
من خلال تجربتك ألا يمكن أن نحقق بعض الأفكار في الواقع؟
- بلى نستطيع، إذ حققنا الكثير من الأفكار في ميادين التعليم والسياسة والاقتصاد والثقافة، لكنها قليلة، وتمشي على استحياء في ميدان واسع من واقع «واقع»!
هل أسهم المفكر في إنقاذ الساسة من ورطة القرارات غير المدروسة؟
- لم نعش هذا الواقع بعد. والحمد لله أن قرارات الساسة غير المدروسة ليست كارثية، والحمد لله أيضاً أن سياسيينا لم يحتاجوا بعد إلى مفكرينا، لأنهم – إن فعلوا – سيصابون بخيبة قاسية.
لماذا ننشد التغيير، ولكننا لا نعرف ماذا نغير؟
- لأننا عادة ما نمضي إلى الهيجاء من دون حسام. نحن قوم من أكثر الأقوام استقامة في الحياة، لكننا من أقلهم جرأة على التغيير، فإن غيّرنا، كان دائماً بيننا وبين الماضي حبل من مسد.
هل ذقت لوعة الفراق؟
- حتى التخمة. على أن يكون معناها البعد عن حبيب، أو وطن، أو أمل، أو طموح.
ما الذي يربطك بالحياة؟
- خيط رفيع يذكّرني دائماً «بالصراط»، لكن فيه الكثير من «الصراع».
ماذا عن طرح البعض لفكرة الصراع بين الأفكار؟
- إن كان الهدف منه التقريب، فهو طرح محق وضروري. أما إن كان وراء الأكمة ما وراءها، فهنا تكمن المصيبة الكبرى، التي تفتح الباب واسعاً إما الافتتان، أو الفتنة.
الغرق في إدارة المؤسسات هل فوت عليك شيئاً؟
- فوّت عليّ أن أكون روائياً. تراودني فكرة كتابة الرواية منذ أمد بعيد، ولا تزال تطاردني، خصوصاً أنني أملك فصولها، وتمتلك هي مفاصلي، لكنني لا أزال أهرب منها، بينما هي تشقى وهي تطارد قلمي، الذي كتب سطوراً عدة منها على شفا سيل كان يراود جسدي ليغرقه، وهو يستجدي خطاه الواهنة إلى مدرسة ابتدائية، تتمترس وراء سيل عرم، وعدة سطور أخرى على دكّة اغتراب قاس أحياناً، ونهم أحياناً أخرى. لكن المهم أنني لا أزال أنتقي عناوين أخرى لكتابة سطور جديدة، علّ الرواية تقوم، أو يهوي القلم.
هل منصبك يحد من طرحك في «تويتر»؟
- قد لا يحد من طرحي، لكنه قد لا «يدوزن» بعض تغريدي. تماماً كحلم الليل حين يمحوه النهار.
لغة الحوار «التويترية» هل تشعر بأنها منحت الكثير متنفساً لا يحلمون به؟
- نعم هو كذلك، بل أكثر من ذلك أيضاً. لغة الحوار التويتري فتحت متنفساً واسعاً للكثير من الرئات الظمأى، لكنها في الوقت نفسه فتحت الكثير من الرئات التي كان ينبغي أن تكتفي بالشهيق الصامت.
في ظل قدرة ال 140 حرفاً على إيصال فكرة، لم مناهجنا لا تفعل ذلك؟
- لأن مناهجنا لم تستطع تجاوز 28 حرفاً، ولم تستطع استغراقها تلك الحروف التي استغرقت ما بين السماء والأرض، ونعاني من أجل توظيفها في مناهج تعليمية قادرة على التعليم الحديث. مشكلتنا تكمن في تقديس الموجود، أو الخوف من الإقدام على التغيير، أو على مجرد الإصلاح.
هل كل جنوبي مشروع جدل كبير؟
- ربما. الجدل حال شد وجذب بين نقيضين، والجنوبي ينشأ إما صاعداً لجباله الشم أو مترجلاً نحو الأودية والسهول، فهو بين حالين يفقد فيهما شيئاً من تحكمه لا حكمته.
كيف يعيش الناس في الجنوب حتى يكون أبناؤهم بكل هذا التسامح ونكران الذات؟
- أبناء الجنوب – كغيرهم من الأبناء – يترجّلون للحياة من أرحام أشبه ما تكون برحم الأرض، وليس كالأرض تسامحاً، ونكراناً للذات. ألا ترى أننا نقطّع أوصالها بالمحاريث، وننبش قلبها بالفؤوس، فتردّ لنا الطعنات سنابل، وفواكه وخضراوات، وتشبع نهم أنوفنا، وفراغ عيوننا عبير ورود، ولوحات أزهار، وتتمدّد من تحت أقدامنا لنعبرها إلى مآربنا متى نشاء، وكيف نشاء؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.