رغم هول المجزرة الكيماوية في الغوطة الدمشقية تبقى المشكلة السورية الحقيقية في مكان آخر، فاللجوء إلى السلاح الكيماوي مسألة تقنية لا يفرقها عن القصف بالطيران أو بالمدفعية الكثير، سوى أن الكيماوي أبلغ فعالية وهو سلاح اتفق دوليًا على حظره منذ أن ظهرت خطورته في الحرب العالمية الأولى. المشكلة السورية أعمق بكثير من حدث 21 آب (أغسطس) يوم استفاق العالم على مئات الضحايا في الغوطتين، والذي انتظره السوريون بعد هذه الجريمة لم يكن اقل من التزام دولي بالانخراط في مشروع شامل للحل والخلاص. بعضهم ذهب أبعد من ذلك أملاً بضربة عسكرية هدّد بها الرئيس الأميركي باراك أوباما وحددت مواعيد لها، والبعض الآخر حلم بتغيير في المناخ الدولي يتيح الإسراع بوضع حد نهائي ل «حفلات» الكيماوي ويدفع الروس والأميركيين إلى تعاون بعد تنافر، بما يخلق أجواء جديدة لفتح نافذة خلاص. لم يحصل شيء من ذلك، واكتفى الأقطاب الدوليون باتفاق على «إنقاذ» السلاح الكيماوي السوري ودفعه إلى أحضان آمنة، أما إنقاذ الشعب السوري فعملية يمكنها الانتظار. كان اقتناء الكيماوي في أدبيات النظام بنداً من بنود التوازن الاستراتيجي مع إسرائيل، إلا انه، مثله مثل المدفعية والدبابات والصواريخ والطائرات، لم يستعمل مرة ضدها، فبقي في مخازنه في انتظار «التوقيت المناسب»، ولم يتوافر هذا التوقيت إلا في مواجهة الداخل، منذ شقت درعا طريق الانتفاضة. إسرائيل وحدها بقيت المطالب الأشرس بنزع الكيماوي السوري ومعه منع أي تطوير لبرامج سورية عسكرية، خصوصاً في المجال النووي، لذلك كان سهلاً على الأميركيين والروس أن يتفقوا بسرعة فائقة في جنيف، بعد لقاء العشرين دقيقة بين بوتين وأوباما في سان بطرسبورغ، على تدمير المخزون السوري، ووافق الأسد من دون ملاحظات، ولو من باب حفظ ماء وجه ممانعة كانت تستعد قبل ساعات لإزالة إسرائيل من الخريطة. لم يتوقف الرئيس السوري عن تكرار التزامه التنفيذ منذ إعلان اتفاق كيري - لافروف. تحدث إلى محطات أميركية وروسية وصينية وفنزويلية... وفي كل أحاديثه «الدولية» لم يخرج عن «الخط»، ف «لا توجد لدينا عقبات حقيقية» في وجه عمل الخبراء، و»سورية تلتزم عادة بكل الاتفاقيات التي توقعها» ( اتفاق الجولان يشهد). بدا الأسد مرتاحاً إلى التعامل الدولي معه، إلا انه في أحاديث إلى الزوار اللبنانيين وأمثالهم من الأصدقاء العرب ذهب أبعد من ذلك مضيفاً جرعة صمود وتصد، ستشكل زاداً لهؤلاء في دفاعهم الموصول عن النظام. كشف الأسد في تصريحات نشرت في بيروت انه يملك ما هو «اكثر أهمية من السلاح الكيميائي... لدينا أسلحة ردع اكثر تطوراً حيال إسرائيل...ويمكننا أن نعمي بصرها في لحظات.» وأن الروس تعهدوا إرسال قواتهم إلى سورية للقتال وصد أي عدوان. في معزل عن مضمون الخطاب الموجه إلى العالم أو الخطاب الموجه إلى الأنصار، لا يظهر الأسد منزعجاً مما آلت إليه الأحوال بمقتضى الإجماع الدولي على نزع سلاحه الكيماوي. وعلى رغم أن فرصة للقضاء على إسرائيل قد ضاعت نتيجة تراجع أوباما و»تردده» وفق أدبيات الممانعة، فإن صمود النظام يترسخ، أقله حتى ينجز دوره كاملاً في تنفيذ اتفاق الكيماوي، الذي يفرض تعاون النظام في مواكبة المفتشين والمراقبين ثم في عمليات التخزين وربما نقل المخزون إلى روسيا لإتلافه، وستستغرق العملية زمناً قد لا ينتهي قبل منتصف العام المقبل. سيطيل اتفاق نزع الكيماوي السوري، في نقاش آلياته وتحديد مهله الزمنية، أمد الصراع في سورية وعليها، وفي أثناء عمليات التفتيش والتجميع المضنية ستزداد الجبهات اشتعالاً والصراع على المغانم احتداماً، ولن يتاح للمشكلة الأصلية التي انطلقت من درعا أن تعرف طريقها إلى التسوية. لقد ركز التفاهم الأميركي - الروسي على المخزون الكيماوي السوري ولم يربط هذه المشكلة «التفصيلية» بالاتفاق الشامل على حل للصراع، وعلى رغم إعلان الطرفين مواصلة البحث والتحضير لمؤتمر يجمع الحكومة والمعارضة في اجتماعات نيويورك، فإن مجريات التجاذب بشأن قرار يصدر عن مجلس الأمن يكرّس الاتفاق حول الكيماوي لم توحِ بتسهيل الانتقال إلى جنيف-2 ، حيث بدا أن الروس يفضلون قراراً تنفيذياً تقنياً يستند إلى ثقتهم بحليفهم السوري، فيما يجنح الأميركيون والغربيون نحو تضمين القرار الدولي التزامات، بمقتضى الفصل السابع، تفتح الباب أمام محاسبة أقوى لحظة الانتقال إلى البحث في التسوية النهائية. مسار قمة العشرين وصولاً إلى جنيففنيويورك ثبّت أمرين حتى الآن: إفقاد النظام السوري احد أسلحته الاستراتيجية في مواجهة إسرائيل، وإعطاءه في المقابل فرصة إضافية للاستمرار، يمكن أن تتحول إلى مديدة بسبب المعارضة السورية نفسها، التي ارتأى «إسلاميوها» إعلان عدم اعترافهم بالائتلاف لحظة وصول وفده إلى الأممالمتحدة، في خطوة تذكّر باستقالة الحكومة اللبنانية عندما كان رئيسها سعد الحريري مجتمعاً بالرئيس الأميركي أوباما. فحتى إذا نجح مجلس الأمن في الوصول إلى موقف موحّد وأقرّ الذهاب إلى جنيف-2 لن يكون لدى الأسد من يفاوضه، وسيزداد الاقتتال في سورية شراسة في حين يتم تثبيت نظرية لافروف القائلة إن «75 في المئة من المعارضين مجرمون وقطاع طرق». وعندها تستمر المأساة السورية إلى ما لا نهاية. * كاتب من أسرة «الحياة»