المكان مخيم في قلب المخيم. سقف خيمة مصنوع من أقمشة بالية مرقعة من جوانب عدة، حيطان من كرتون مصدرها القمامة، أرضية من حُصُر وأغطية رثة. في زاوية الخيمة ما يشبه الخزانة لوضع الملابس، لكن العقارب والحشرات استوطنتها، وطفل ممدد يلهو بلا شيء، عوضاً من أن يكون على مقاعد الدراسة. تسألني هل يوجد في القرن الحادي والعشرين مكان كهذا؟ أجيبك نعم إنها «النكبة التي لا نعرف مصيرها». عنوانها: صورة معلقة على جدار في معرض صور فوتوغرافية لمخيم الكرامة الذي يقع في قلب مخيم عين الحلوة (في جنوب لبنان) للفلسطيني بشارة داموني، وتبقى «الحقيقة ابشع وأقسى بكثير». حاول بشارة أن يلتقط بعدسته معاناة وآلام أحس بها قبل عدسته الجامدة، ليسجل اللحظة للتاريخ. يحكي بحسرة عمّا رآه: «تخيّلي. نحن في القرن الحادي والعشرين وثمة أناس يعيشون في خيمة لا تشبه الخيمة... من بين 70 خيمة في مخيم الكرامة في عين الحلوة لم أرَ سوى خمس خيم طبيعية والبقية أنقاض خيم». يروي داموني مأساة شعب كتب عليه أن يبقى مهجّراً ويبحث عن وطن طيلة عمره. منهم من تهجر للمرة الرابعة في حياته. لكن الفرق انه» عندما تهجرنا في العام 1948 كانت الخيم ممتازة وتمنع أضرار الحر، وعندما تآمروا علينا وهجرونا إلى سورية في الجولان عمّرنا وبنينا. وفي 1967 تهجرنا مجدداً من الجولان إلى الشام. وعندما تهجرنا من سورية إلى عين الحلوة، كنا نتمنى أن نجد خيمة تؤوينا». يترحم النازحون الفلسطينيون على بيوتهم في سورية حيث كانوا يعيشون في احسن حال: «في سورية كنا نعيش في ثلاث غرف مكسوّة بكسوة ممتازة ، أما هنا فنحن نشرب كأس الذل والهوان»، يقول احدهم في صورة. وهناك في زاوية اخرى قصة اخرى لأناس دارت عليها الأيام وأصبحوا يعيشون في خيمة ويقتاتون بفضلات سوق الخضار بعدما كانوا يملكون مبنى مكوّناً من ست طبقات. «هناك فرق بين الحياة في سورية والحياة في لبنان. في بيتنا في دمشق كنا نعيش بكرامة، لا ينقصنا أي شيء، أما الآن فأنا أعيش مع أولادي الخمسة وأخت زوجي وأمه في خيمة واحدة. زوجي في دمشق كان مدير قسم في أحد الفنادق، أما الآن فهو يبيع القهوة على قارعة الطريق، ومنذ شهر رمضان لم يعمل بسبب مرضه». «صندوق الفرجة» يتحدث بشارة بلسان حال الفلسطينيين في مخيم الكرامة الذين فضلوا التواصل معه بعد أن ذاقوا الأمرّين من الإعلام. لقد سئموا لعب دور «صندوق الفرجة» الذي يحلو لأي كان أن يراه ويجتزئ ما يريده من حقيقتهم، بخاصة بعدما كان يأتي كثير من الإعلاميين ليصورا ويملؤوا جرائدهم وشاشاتهم بأخبار معاناة الفلسطينيين وكأنهم يتاجرون بهم، وكأن معاناتهم أصبحت مجرد خبر من الأخبار لا قيمة له. لكن وبعد خمسة اشهر من التردد على المخيم وثق الفلسطينيون بابن بلدهم الذي نجح في إقناعهم بأن هدفه إظهار معاناتهم، ففتحوا لهم خيمهم وقلوبهم ، وكانت فكرته الجديدة انه قرر عرض شهادات الناس الى جانب كل صورة، فكانت الكلمة والصورة، علّ الصورة تتحدث بمكنوناتها وتوصل الوجع. ويعتقد بشارة ان صوت النازحين الفلسطينيين من سوريا لا يصل كما يجب، محاولاً بجهد ان يعكس المساحات التي يعيشون فيها وما يريدون قوله للعالم: «هذا المعرض لهم تركت لهم المجال ليقولوا ما يريدون». تقول صورة: «تصوّر أنه تحت سقف هذه الخيمة يتنفس ستة عشر شخصاً من ثلاث عائلات. قسمنا الخيمة قسمين، البنات في الداخل والقسم الآخر للصبيان. حتى نشعر بالحياة ونحس بأننا أحياء لوّنا الغرفة باللّون الأحمر». في الصورة، في تلك اللحظة حيث يتجمد الزمان والمكان، نجح بشارة في ان يُنطق لقطاته بمآسٍ تتستر خلف ستار خيمة بالية تكاد تقع على رؤوس من فيها. «أحضرت معي ابنتي ذات الثمانية شهور، كانت تنبض بالحياة، أسكنتها خيمة اللجوء، حيث الحر شديد، فسكنتها الجراثيم والحشرات. بدأت ابنتي تذبل أمام عيني، أخذتها إلى المستشفى، فطلبوا 2000 دولار، وليس في جيبي دولار منها، فأخبروني أنها تعاني جفافاً. اشتدّ مرضها تحت سقف الخيمة حتى أغمضت عينيها إلى الأبد». يلوم بشارة والنازحون الأممالمتحدة والمسؤولين في الأونروا الذين تحدث هذه المأساة الإنسانية على مرأى منهم، لكن يبدو أنها غير كافية لتحرك إنسانيتهم و»لا لتجذب مسؤولي الأونروا لزيارة معرض الصور الفوتوغرافية»، ربما لأنهم يريدون التعامي عن الحقيقة. «سنعود حتماً بإذن الله» عبارة التقطت في احدى الصور مذيّلة بتوقيع «مخيّم الكرامة». ولكن عن اي عودة يتحدثون يا ترى؟ يقول بشارة انه حمل هذا السؤال الى النازحين فأجابوا: فرحتنا الكبيرة بالعودة الأولى الى بيوتنا في سورية لكن فرحتنا الكبرى بالعودة الى بلدنا فلسطين، ولكن، أضاف احدهم: « اذا كنا سنعيش هناك كما نعيش اليوم هنا نفضل ان نبقى هنا!». فلسطين نكبة مستمرة لا يُعرف مصيرها، والنظرة الى المستقبل يائسة إلى درجة أن أحد النازحين قال: «إذا كان ثمن العودة إلى فلسطين كل هذا الذل والعالم يتفرج علينا، فلا نريدها!». معرض التصوير الفوتوغرافي للفلسطيني بشارة داموني الذي نظمه برنامج الثقافة والفنون في مؤسسة «عبد المحسن القطان»، افتتح في مؤسسة نمر الثقافية في كليمنصو- بيروت واختتم أمس. وينتقل إلى «مركز معروف سعد الثقافي» في صيدا في الثاني من تشرين الأول (أكتوبر) المقبل.