ممنوع القتل بالسلاح الكيماوي... والمنع لا يشمل وسائل القتل الأخرى، هذا ما استنتجه السوريون وباقي العرب من الاتفاق الأميركي – الروسي الذي تم في جنيف بين وزيري خارجية البلدين جون كيري وسيرغي لافروف. ويعود هذا الاستنتاج إلى أن الاتفاق، الذي جنّب النظام السوري ضربة عسكرية غربية عقاباً له على استخدامه السلاح الكيماوي، وإيقاعه مئات الضحايا من النساء والأطفال، أغفل ذكر الأسلحة الاستراتيجية الأخرى التي يستخدمها النظام ضد شعبه، ما يدفعه إلى مواصلة استخدامها، خصوصاً صواريخ أرض – أرض وسلاح الطيران، في دك المدن السورية وتدمير أحيائها المدنية بالصواريخ والبراميل المتفجرة، ونشر الرعب والخوف بين سكانها، وقتل الآلاف منهم. واعتقد السوريون ومعهم العرب في بداية الأمر أن الرئيس الأميركي باراك أوباما كان جاداً في معاقبة النظام السوري على ارتكابه مجزرة غوطة دمشق بالسلاح الكيماوي، نتيجة تجاوزه الخط الأحمر الذي وضعه له منذ سنة في هذا الشأن. واعتقدوا أيضاً أن الضربة العسكرية ضد النظام السوري التي أعلن عنها أوباما ستكون بداية نهاية مأساة الشعب السوري. لكنهم ما لبثوا أن شككوا بصدق نواياه نتيجة تردده في الوفاء بوعده، ومحاولاته الهروب إلى الأمام بإيجاد الذرائع للتملص منه. وفوجئ العرب بكلام كيري في لندن عن استعداد الولاياتالمتحدة لإلغاء الضربة العسكرية إذا وافق النظام السوري على تسليم ترسانته الكيماوية إلى الأممالمتحدة، وتلقف الروس السريع للكلام ووضعه في إطار اقتراح تحول بعدها إلى مبادرة، ما أثار لديهم علامات استفهام تتصل بما إذا كان الاقتراح نتيجة اللقاء الذي جمع أوباما بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال قمة العشرين في بطرسبرغ. وزاد في قهر الدول العربية الحليفة للولايات المتحدة اهتمام الأخيرة بمصالحها فقط، وتخليها عن مصالح حلفائها العرب، واستبعادهم من المفاوضات التي جرت بينها وبين روسيا، وعدم اكتراثها بتداعيات اتفاق جنيف على الشعب السوري وثورته. إذ أن الاتفاق أعطى الولاياتالمتحدة والغرب وإسرائيل ما يريدونه، خصوصاً أن السلاح الكيماوي كان يشكل تهديداً كبيراً لإسرائيل، في مقابل ترك الحرب السورية تتفاعل لشهور أو سنوات عدة، أو في مقابل حصانة للنظام السوري بموجب تعاونه مع الأممالمتحدة لاحقاً. ومعلوم أن استخدام الكيماوي في غوطة دمشق جريمة ضد الإنسانية، يفترض محاسبة النظام على ارتكابها وإحالته على المحكمة الجنائية الدولية، لكن الاتفاق أغفل هذا الأمر، وأبعد الأسد عن تحمل تبعاتها، وأرسى موقعه في الرئاسة، وكأن المطلوب التخلص من ترسانته الكيماوية حفاظاً على أمن إسرائيل، وليس محاسبته على جريمته. وكشف الاتفاق زيف الشعارات البراقة عن الحرية وحماية الإنسان التي يتغنى بها المجتمع الدولي، وفضح عدم صدقية المواقف والمبادئ التي يطلقها رؤساء الدول الكبرى، لإيهام الرأي العام، سواء في بلادهم، أو على مستوى العالم كله، بأن المنظومات الدولية والإنسانية، تسير وفق الشرائع والاتفاقات الدولية. كما أثبتت الشعارات التي ترفعها الدول الغربية وتتشدق بها في المناسبات أنها ليست سوى أغطية بالية لتدمير الشعوب العربية والاستيلاء على ثرواتها. فلم تتحرك تحركاً فاعلاً لوقف ما يجري في سورية من مجازر مروعة، ومواجهات دموية مدمرة، تحصد الحجر والبشر، متلطية في إحجامها على إنهاء الحرب السورية استخدام روسيا حق النقض في مجلس الأمن. وكل ما فعله المجتمع الدولي هو تقديم بعض المساعدات الإنسانية للاجئين السوريين في دول الجوار، وهي مساعدات لا تكفي الاحتياجات الأساسية لهؤلاء اللاجئين. حققت الديبلوماسية الروسية نجاحاً كبيراً في الاتفاق، فأثبتت أن روسيا قوة عظمى لها نفوذ كبير في العالم، وتأثير فاعل في قضاياه، وأنها تحمي حلفاءها ولا تتخلى عنهم، فهي أنقذت الأسد من ضربة عسكرية ومن احتمال انهيار نظامه. إذ أن الاتفاق يعتمد في تطبيقه على تعاون النظام السوري مع الأممالمتحدة، ومعلوم أن تنفيذه يحتاج إلى شهور طويلة إن لم يكن سنوات لتنفيذ كل بنوده، من البروتوكول المزمع توقيعه بين الحكومة السورية والأممالمتحدة، وأسماء الأسلحة الكيماوية والبيولوجية، وأنواعها، وكمياتها، ونظم إطلاقها، ومواقع التخزين والإنتاج والأبحاث، ومنشآت التطوير، والفترة المطلوبة لتجميعها، وأماكن تدميرها، ويكمن الشيطان في تفاصيل كل بند. كما أن هناك ثغرات يمكن النظام التحايل عليها من أجل الاحتفاظ بأسلحته المحرمة دولياً، منها عدم تحديده أية قواعد لطريقة ضمان أمن مواقع الأسلحة إلى حين تدميرها، وعدم نصه على نشر حراس وكاميرات أو كاشفات للحركة في مواقع الأسلحة ومنشآتها وإقامة جدران حولها. ونحن على يقين بأن الأسد المشهور بمراوغته وإخلاله بتعهداته، سيمتنع عن كشف كل منشآت التخزين والإنتاج، خصوصاً الصغيرة والمتحركة منها، كما أنه سيجعل من تنفيذ هذا الاتفاق أمراً في غاية الصعوبة، في رهان على متغيرات في الإقليم تخدم نظامه. وعلى رغم الاتفاق، أبقى أوباما الخيار العسكري ضد النظام السوري خياراً محتملاً، إلا أن كثيرين من المراقبين لم يعودوا يرونه خياراً فاعلاً، وإن كان يستخدم للضغط على النظام وحلفائه في لعبة الإفادة من الخيار الديبلوماسي. وقد يكون الهدف أيضاً إرغام النظام على المشاركة في جنيف 2، والموافقة على حكومة انتقالية كاملة الصلاحيات تستلم السلطة حتى إجراء انتخابات جديدة، من أجل الإبقاء على هيكلية المؤسّسات الرسمية وعدم انهيارها. وفي اعتقاد الكثيرين أن أوباما لم يكن راغباً منذ البداية في أي ضربة عسكرية، إذ أنه أجهضها تباعاً بقراره العودة إلى الكونغرس قبل القيام بها، ثم بتأجيل التصويت تبعاً للاقتراح الروسي حول وضع النظام السوري أسلحته الكيماوية تحت رقابة دولية. وأسباب تردد أوباما وعدم رغبته في ضربة عسكرية كثيرة منها، رفض مجلس العموم البريطاني مشاركة بريطانيا فيها، وعودة فرنسا عن قرارها بالمشاركة فيها في انتظار تقرير لجنة الخبراء الدوليين، وانكفاء ألمانيا، ورفض غالبية الرأي العام الأميركي لها، ورفض عدد كبير لها من أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب الأميركيين، ومدى تطوراتها المحتملة، على ضوء تضارب المصالح الإقليمية، والخوف من أن يؤدي انهيار النظام السوري إلى فوضى يخشى منها الجميع، واحتمال مسارعة المتطرفين إلى كسب مواقع والسيطرة عليها. وأخيراً، هل يشكل الاتفاق الأميركي – الروسي خطوة تمهيدية تتبعها خطوات جادة لإنهاء الحرب السورية بالوسائل السياسية، أم يكتفي الأميركيون بالتخلص من أسلحة سورية الكيماوية، التي كانت تشكل توازناً استراتيجياً مع إسرائيل، والروس بوقف الضربة العسكرية والحفاظ على الأسد ونظامه؟ * كاتب لبناني