قبل قرابة نصف قرن، سحب عقار ال «ثاليدومايد» Thalidomide وحظر استخدامه دولياً، بعدما تأكدت علمياً خطورته على النساء الحوامل وأجنتهن، بل أنه تسبب في ولادة مجموعة كبيرة من المصابين (عرفوا باسم «جيل الثاليدومايد» Thalidomide Generation) بتشوهات في الأطراف والحبل الشوكي والأوعية الدموية، إضافة الى حالات من الإجهاض المتأخر أيضاً. وفي خمسينات القرن الماضي، راج استعمال هذا العقار بوصفه مهدئاً ومضاداً للغثيان والدوخة، إضافة لكونه مسكناً قوياً للآلام ومخففاً للإرهاق والأرق. وحينها، زعمت شركة «جرونتال» الألمانية التي صنعته، أنه آمن ولا يؤثر على الجنين في فترة الحمل. وثبت زيف هذه المزاعم لاحقاً، وبطريقة كوارثية تماماً. ولم يستخدم هذا العقار في الولاياتالمتحدة التي كرمت الطبيبة فرانسيس أولدهام كيلسي، المسؤولة السابقة في «المكتب الأميركي للغذاء والدواء» لرفضها السماح بتوزيع ال«ثاليدومايد» في أميركا. وعلى مدار العقود الماضية، أجبر القضاء في دول عدة الشركة الألمانية التي صنعت ال «ثاليدومايد» على دفع عشرات الملايين من الدولارات، في قضايا تعويضات لأسر «جيل الثاليدومايد». وما زال قسم من هذه القضايا في أروقة القضاء لحد الآن. وفي 2012، أجبرت الشركة عبر مديرها العام هارالد شتوك على تقديم اعتذار رسمي للضحايا وذويهم. وقوبل الاعتذار بانتقادات شديدة من قبل الضحايا وأسرهم في أستراليا والسويد وبريطانيا. ولم يتردد هؤلاء في وصف الاعتذار بأنه «أقل من اللازم وجاء متأخراً للغاية»، متهمين شتوك ب «النفاق». وفي مقابلة مع صحيفة «افتونبلادت» السويدية، قلل بيورن هاكانسون، وهو رئيس «جمعية ثاليدومايد السويدية» من شأن اعتذار الشركة قائلاً: «لحد الآن، يعيش 99 شخصاً من ضحايا العقار في السويد، ويكابدون آلاماً جمة. لم يتلق هؤلاء تعويضات من تلك الشركة». وأضاف هاكانسون أن الشركة الألمانية ما كانت لتفكر في الاعتذار بعد قرابة نصف قرن، إلا بعد رفع دعاوى ضدها في بلدان عدة، «إنهم لم يفعلوا شيئاً أبداً إلا تحت الضغط». تكرار المأساة! على رغم هذه الوقائع، ما زال عقار ال «ثاليدومايد» مستخدماً في عدد من الدول في شكل مقنن جداً، سعياً للاستفادة من بعض خصائصه. فمثلاً، يستعمل ال «ثاليدومايد» مع دواء ال «ديكساميثازون» (وهو نوع من الكورتيزون)، في علاج أحد أنواع سرطان الدم اسمه «مالتبل ميالوما» Multiple Myeloma في حالات فشل علاجها بالأدوية التقليدية. وكذلك يستعمل ال «ثاليدومايد» في علاج مرض الجذام «البرص» Leprosy، خصوصاً ظاهرة «العقد الحمامية» Erythema Nodosum Leprosum بدرجاتها المتوسطة والشديدة. وكذلك يستعمل في بعض أنواع الأورام التي تصيب النخاع الشوكي. وترتكز كثير من هذه الاستعمالات على قدرة ال «ثاليدومايد» في التأثير على جهاز المناعة، وكذلك تقليل عملية توالد أوعية دموية تغذي خلايا السرطان. وعلى رغم هذا الاستعمال المقيد، سبب ال «ثاليدومايد» تأثيرات جانبية كثيرة في من تناولوه، خصوصاً الحوامل وأجنتهن. وتأكد أمر هذه التأثيرات الجانبية المضرة عبر تقارير علمية كثيرة، منها التقرير الذي نشرته ال «بي بي سي» أخيراً متضمناً تأكيداً من الباحثة لافينيا شولر- ماكسيني، وهي من الجامعة الفيدرالية في «ريو غراندي دو سول» في مدينة «بورتو إليجري» بالبرازيل. ووثقت شولر- ماكسيني حصول تشوهات عند أطفال من تناولن ال «ثاليدومايد» لمعالجة الجذام بين عامي 2005 و2010. ونشرت مجلات عراقية مقالات علمية عن التأثيرات المضرة لعقار «ثاليدومايد»، في فترات غير بعيدة. وعلى رغم هذه المعطيات الحساسة، يعاد توزيع ال «ثاليدومايد» في دول العالم الثالث، بل يروج له كعقار آمن مع إغفال تاريخه المأسوي بالكامل! ويجري تسويق العقار بأسماء عدة، بعد إفتضاح أضراره وحظره، تشمل «كونتيرجين» و«ثاليمول» و«سوفتينون». وكذلك تأكد أن إيران هي إحدى الدول الموزعة لل «ثاليدومايد». إذ أشارت تقارير إعلامية إلى تلقي النظام السوري مساعدات على هيئة مستلزمات طبية قيمتها 200 مليون دولار، وصفت بأنها معونات من إيران. وتضمنت هذه المستلزمات الطبية عقار «ثاليدومايد»، الذي يعتقد بأنه سبب للأسر السورية مئات الحالات المرضية، بما فيها تشوهات خلقية مثبتة طبياً. وفي العراق يوجد العقار حالياً في صيدليات المستشفيات الحكومية في علب تحمل إسم «تاليدوميد»، بعد أن قدمته إيران ضمن بند «إغاثة طبية». وتحتوي العلبة على 100 قرص. وحصل كاتب المقال على العلبة التي تظهر عليها كتابة بالفارسية، أرسلت من قبل اختصاصي بارز وأستاذ في كلية الطب في جامعة بغداد، يتعذر نشر اسمه تجنباً لإحراجه. وهناك دعوة لذوي المهن الطبية للمساهمة الفورية والجادة بمنع استخدام هذا العقار الخطير في العراق. ومن منطلق أكاديمي ووطني، من الملح طرح سؤال على وزارة الصحة العراقية، خصوصاً المسؤولين عن الأدوية والمستلزمات الطبية فيها، عن الجهة التي سمحت بإجازة دخول هذا العقار الى العراق، خصوصاً لجهة طريقة الاستعمال. هل أنه مصرح بتناوله من دون تقنين صارم يجعله قصراً على فئات قليلة، مع تجنب إعطائه الحوامل دوماً، أم أنه يضبط ضمن هذه الحدود العلمية الصارمة؟ هل هناك توعية كافية بالتاريخ المأسوي لاستخدام هذا العقار؟ ألا يكفي ما سببه اليورانيوم المستنفد والفوسفور الأبيض من تشوهات خلقية وسرطانات للعراقيين؟ أكاديمي عراقي