مرّت ذكرى تفجيرات 11/9/2001 بما يشبه مرور الكرام هذه السنة، ومن الواضح أنّ شبح تلك الأحداث ابتعد عن وعي الغربيين ومخاوفهم ولم يعد يؤرق نومهم، وتراجع أيضاً الجدل الذي كان يرتبط سنوياً بهذه الذكرى ويتّخذ له موضوعاً تلك النقاط الغامضة والأسرار الخفية التي لم تكشف بعد، وهي على الأرجح لن تكشف أبداً. إذاً، دخل العالم مرحلة ما بعد 11/9، وكان للثورات العربية فضل كبير في ذلك. فهي التي خلّصت الغرب من هاجس الإرهاب بأن أعادت هذه الظاهرة إلى موطنها الأصلي وحاضنتها الأولى، أي الشرق الأوسط، فعاد الإرهاب مثل الابن البارّ الذي اختبر الهجرة لسنوات ثم شدّه الحنين لأهله وأحبابه ومناخه المألوف. الأكيد أنّ الولاياتالمتحدة لم تحقّق الأهداف المرجوّة من حربها على الإرهاب، بما أنّ الإرهاب الذي كان محصوراً في أفغانستان قبل 2001 انتشر مذاك في كلّ بقاع العالم، وبمقدار ما كانت الحروب الأميركية تتسع، اتسعت معها رقعة الإرهاب لتشمل كلّ المعمورة. بيد أنّ مسؤولية القادة الأميركيين لا تتمثّل في إنقاذ العالم، وإنما في دورهم في حماية بلدهم ومواطنيهم، فإذا نظرنا إلى الموضوع من هذه الزاوية أمكن القول إنّ عولمة الإرهاب خفّفت الضغط على أميركا، بل أعادت إلى هذا البلد مناعته. وعلينا أن نتذكّر المناخ الذي ارتبط بأحداث 11/9، وكيف كانت «القاعدة» تهدّد آنذاك بأن تكون تلك الأحداث مجرّد بداية، وأن الحرب لم تشهد إلا معركتها الأولى، وصدّق كثيرون منّا تلك التهديدات، إمّا من موقع القناعة أو من موقع الشماتة. لكنّ الحقيقة التي أصبحت واضحة للعيان اليوم أنّ الغرب لا يلدغ من جحر مرتين، وأنّ عامل المباغتة هو الذي أنجح تفجيرات 11/9. وأثبتت العقلانية الغربية أنها قادرة على تجاوز التحدّي، فأصبحت تلك الأحداث مجرّد ذكرى أليمة مثل أحداث الهجوم الياباني على الأسطول الأميركي في بداية الحرب العالمية الثانية. وتنسحب هذه الملاحظة على أوروبا، فتفجيرات مدريد في 11/3/2004 ولندن في 7/7/2005 أصبحت بعيدة أيضاً من مخاوف الأوروبيّين، وهؤلاء أكثر تخوّفاً اليوم من انهيار عملة اليورو أو من إفلاس اليونان مما من الإرهاب. وفي تقرير أصدرته السنة الماضية منظمة «أوروبول» المختصة في الأمن الأوروبي يرد أنّ ما كان يدعى «الإرهاب الإسلامي» لم يمثّل أكثر من واحد في المئة من مجموع العمليات الأوروبية الحاصلة على التراب الأوروبي، والجزء الأكبر تقف وراءه الحركات الانفصالية. فالتغطية الإعلامية للإرهاب كانت أكبر بكثير من حقيقته في الغرب. وربما كانت مجرّد مصادفة أن تتوقف أشرطة بن لادن على قناة «الجزيرة» مع قيام الثورة التونسية، وأن يعلن عن مقتله مع انتصار الثورة المصرية، لكنّ المهمّ أنه يتضح اليوم أنّ الإرهاب انتقل نهائياً إلى مرحلة يمكن أن نرتّبها الثالثة في تاريخه المعاصر. فالمرحلة الأولى كانت مرحلة النشأة، وهي تعود إلى السبعينات: آنذاك نشأت التنظيمات الجهادية ذات المرجعية القطبية (نسبة إلى سيّد قطب) الراديكالية، مثل «التكفير والهجرة» و «مسلمون»، ومن مصر انتشرت في المجتمعات المجاورة، واستفحلت في الجزائر في التسعينات بما لم يشهده بلد آخر. ولكن، حتى هذه المرحلة ظلّ هذا الإرهاب محصوراً في السياق الشرق الأوسطي بالمعنى الواسع، ومرتبطاً بمشاكله وصراعاته. ثم بدأت المرحلة الثانية مع ظهور بن لادن والظواهري على ساحة الفعل. فقد أنشآ «الجبهة العالمية لقتال اليهود والصليبيّين» ثم تنظيم «القاعدة» المشهور، وطرحا مبدأ «قتال العدوّ البعيد قبل القريب»، ومعناه مهاجمة الغرب في عقر داره باعتباره الداعم للأنظمة الإسلامية الكافرة في رأيهما، كي يرفع دعمه لهذه الأنظمة. وكان هذا التحوّل مرتبطاً بتجربة بن لادن الطويلة في محاربة الاتحاد السوفياتي في أفغانستان، وتقديره أنّه هو الذي أسقط إمبراطورية الشرّ الأولى، وعليه أن يسقط إمبراطورية الشرّ الثانية، أي أميركا، اقتداء بالتجربة الإسلامية الأولى التي أسقطت الإمبراطورية الفارسية ثم الإمبراطورية البيزنطية. لكن هذه الاستراتيجية لم تعمّر طويلاً، فبعد بضع عمليات ناجحة تواصلت بين 1999 و2005، انغلق مجال العمل أمام إرهابيّي «القاعدة» بما جعلهم يبحثون عن موقع قدم في المنطقة الأكثر ملاءمة لنشاطاتهم، ويبحثون عن أهداف أكثر يسراً من مهاجمة برج التجارة في نيويورك، فاتجهوا إلى العراق واليمن، ثم اليوم إلى ليبيا والصحراء. بذلك، كرّست الثورات العربية بما أحدثته من فراغ في المنطقة مرور الإرهاب إلى مرحلة ثالثة، تتسم بالعودة النهائية إلى موطن الأصول. إنّ التفجيرات الأخيرة في مصر، والمواجهات مع المجموعات المتشدّدة على الحدود التونسية- الجزائرية، ستحيل المراقب إلى ما كان يحدث في المرحلة الأولى من الإرهاب، بما يثبت أنّ المجتمعات العربية قابلة بأن تلدغ من جحر مرتين وثلاثاً وأربعاً إلى ما لا نهاية. وما هو جدير بالتنبيه هنا، أن نلاحظ أننا أمام وضعين متقابلين: ففي مصر، عاد الإرهاب بقوّة بعد عزل «الإخوان المسلمين» عن الحكم، وفي تونس، ظهر الإرهاب بقوّة مع وصول حزب «النهضة» الإسلاموي إلى السلطة، بما يعني أنّ الإرهاب قضية بنيوية وليست ظرفية أو مرتبطة بأحداث سياسية بعينها. لقد حضّ استراتيجيون أميركيون كثيرون الإدارة الأميركية على أن تضغط باتجاه تشجيع الديموقراطية في الشرق الأوسط باعتبار أنّ ذلك سيؤدّي إلى تخفيف قابلية هذه المنطقة لإنتاج الإرهاب وتصديره، وبما أنّ اهتمام هؤلاء كان منصبّاً على تحقيق المصالح الأميركية أساساً، لم يكلّفوا أنفسهم عناء التفكير العميق في طرق «دمقرطة» تلك المجتمعات، وذلك لم يكن مطلوباً منهم على كلّ حال. لكنّ المطلوب من العرب أن يعترفوا بالحضور الهيكلي للإرهاب لديهم لأسباب ينبغي تحليلها بدقة، في سبيل التخلص من هذا التهديد الذي سيجرف هذه المجتمعات إلى الحضيض، بدل البحث المستمرّ عن «شماعات» خارجية تعلق عليها المسؤوليات. لقد نجح الغرب في التخلص من المشكلة، وأصبح كل ضغطها موجهاً إلى المجتمعات العربية الآن. انتهى عالم 11/9 بعودة الإرهاب إلى أهله، فعليهم تقع اليوم مهمة مواجهته مواجهة ناجعة.