أفضى الإسلام السلفي، في ضوء تحولاته أخيراً داخل مصر، إلى «سلفية سياسية جديدة» متنوعة، تعنى بتوطيد الهم السلطوي قبل الهم الدعوي، وانقلاب الأولويات لتصبح الدولة والأمة في البداية قبل الإسلام التربوي والدعوي، بما يؤكد أننا لسنا أمام السلفية التقليدية التي تهتم بالدعوة والتربية من دون خوض غمار العمل السياسي، والسلفية الإصلاحية التي أجازت العمل السياسي، وقبلت بالعملية الديموقراطية، أو السلفية الجهادية التي تؤمن بجواز الخروج على الحكام. لكننا أمام مرحلة جديدة، انتهى فيها عصر السلفية، إلى «ما بعد السلفية» التي انتقلت من الإيمان بالأفكار الإسلامية العامة المستقاة من النموذج الإسلامي التاريخي، إلى الإيمان بالعمل السياسي، والتحول إلى معنى جديد يتكيف مع تطور المشهد المصري، وينسلخ تدريجاً من كل المرحلة التاريخية القديمة، إلى حالة تتجاوز كل القديم. ليست «ما بعد السلفية»، «ليبرو سلفية»، بمعنى أنها تتحول ناحية الليبرالية، إذ ساعتها لن تكون السلفية التي تستند إلى موقف اجتماعي نابع من استعادة الأصل الديني النقي بطريقة نصوصية؛ بعيداً من الفكر السائد، وبهذا فهي في الأساس حركة دفاعية عن أصول الدين، تدعو إلى هيمنة منهج السلف وعلومهم، وأن تكون مركزية العلم الديني هي مركزية التفاضل بين المنتمين لها، وإعمال العقل الفقهي في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية عموماً للمسلمين، وهذا يختلف في مجمله عن الليبرالية، حتى لو غيّر السلفيون مواقفهم من بعض «الثوابت الخاصة». كما أنها ليست سلفية ديناميكية، تقوم على ما نسميه النهج التبديعي (نسبة إلى البدعة) وإخراج مخالفيها عن زمرة أهل السنة والجماعة، أو ذات نزعة كلاسيكية تنقد الواقع وتشخّص أسباب انحطاطه، ولا تريد أن تتعامل معه، وعندما نفهم السلفية بوصفنا بعض المواقف السياسية، أو بوصفنا التقليدي الإصلاحي لها، فإننا مخطئون. «ما بعد السلفية» هي المرحلة الجديدة التي استطاعت أن تتجاوز نفسها بعد أن احتكت بالديموقراطية التداولية الحقيقية، وبعد أن رأت قدرة وإمكانية الآلة الديموقراطية على إنجاز الأفكار نظرياً وإنجاحها عملياً، كما استطاعت أن تعيد إنتاج خطابها الكلاسيكي لتكسبه طابعاً جديداً قابلاً للحياة في مجتمع علماني. أنتجت «ما بعد السلفية» خطاباً جديداً تحول من الأخلاقي إلى السياسي، وكذلك ملامح جديدة، لم تقف أمام بعض الثوابت، واعتبرتها منتجات فكرية نابعة من اختلاف الرؤى واكتشاف خبرات السلف ودلالتها من جديد، مثل مفهوم الدولة الوطنية، الذي كان مؤسساً سابقاً على سيادة مبدأ الأخلاق وقيم ومبادئ السلف حتى في النموذج السياسي للدولة. كما أن ثمة تغيرات عميقة تشكلت في نوعية ودرجة الحضور المجتمعي لما بعد السلفية، فبعد أن كان ذا سمات دعوية في المقام الأول ودرجة حضوره عالية في مستوى الطبقة المتوسطة، راح يتشكل الآن بين الفئات كافة، وراح أتباعها الجدد يشاركون في اتخاذ مواقف في كل ما يُطرح على الساحة المجتمعية، بخاصة السياسي منها كالجدل الذي دار حول أيهما أولاً الدستور أم الانتخابات؟ ووثيقة المبادئ الدستورية، على سبيل المثال. ولم يعد الإطار الجماعي أو التنظيمي مشكلة، إذ أصبحت «ما بعد السلفية» تفضِّل العمل في إطار جماعة منضبطة لها هياكلها التنظيمية المعلنة، وحولت الملامح الجديدة المُمارسة السياسيّة بعد الثورة المصرية الاعتقاد من عدم المشاركة في العمل السياسي لأن النظم السياسية الحديثة ليست إسلامية، إلى إنشاء أكثر من 10 أحزاب سلفية، والانتقال إلى خريطة جديدة، أضحت الآن في منافسات متواصلة مع جماعة «الإخوان»، مثل «النور، الفضيلة، الأصالة، البناء والتنمية، الإصلاح والنهضة، الراية... إلخ». غيّرت خريطة «ما بعد السلفية» حالة الإسلام السياسي في مصر، ورجّحت مجموعة من التحولات والتغييرات أصابت كل التيار وكياناته بالكامل، فقفزت على السلفية الاجتماعية المؤسساتية التي مثلتها «جماعة أنصار السنة المحمدية»، و «الجمعية الشرعية»، و «السلفية العلمية» التي تؤمن بالتصفية والتربية والعلم، وكذلك السلفية الحركية، أو سلفية التزكية والتربية، وانتهى هذا العصر تماماً، وظهر «التيار الثالث»، وهو الذي تتآلف تحت مظلته أربع حركات فرعية، هي: «الجبهة السلفية، وحركة طلاب الشريعة، وتيار الإسلام الجديد، وحركة أحفاد صلاح الدين»، فيما تتوحد هذه الحركات بينها على ما تصفه، بالتصدي لبراغماتية الإخوان والسلفيين. كما نشأ «الإسلاميون الثوريون»، (حركة أغلب أفرادها من التنظيمات الجهادية القديمة «الوعد - العريش - تنظيم الغردقة)، ونشأت حركة «حازمون» التي تنتمي إلى المرشح الرئاسي المحتمل حازم صلاح أبو إسماعيل، كما سبقتها مجموعة من الكيانات الجديدة، أولها «الهيئة الشرعية لحماية الحقوق والحريات»، التي حددت أهدافها في إيجاد مرجعية شرعية والعمل على وحدة الصف، و»الجبهة السلفية» وهي رابطة تضم رموزاً إسلامية وسلفية مستقلة، كما تشكل «ائتلاف شباب مصر الإسلامي» - ائتلاف غالبية أفراده من التيار السروري، ثم تشكل «ائتلاف دعم المسلمين الجدد» الذي اهتم بالقضايا الطائفية في شكل خاص، وقبلها نشأ «سلفيو كوستا» وهم مجموعة من الشباب السلفيين، وظهروا في نيسان (أبريل) عام 2012 عقب الاستفتاء على التعددية الدستورية، وأعلنوا أن أهم أهدافهم هو التقريب بين التيارات في شكل عصري. السلفية الآن مرحلة مضت باتجاه جديد، وملامح أخرى، وخريطة متجددة، إذ إن هدفها الذي شُكلت من أجله بات يندثر، وخطابها الرسمي أصبح مختلفاً، بعد أن عاشت هاجس السلطة والحكم من جهة، وأنها دعوية من جهة أخرى، وأصبحت متطلبات وطبيعة أدوار ما بعدها تختلف وتتناقض مع القديم، لا سيما أن ذلك بدأ يفرز حالة من الاختلاف والصراع والتصادم في بنيوية هذه الحركة وتركيبتها المنظمة، في اتجاه «ما بعد السلفية»، والتي نظن أنها تمثل الآن المنتج النهائي لها.