يئن «النسيج المصري» لكثرة ما تحمّل على مدى عقود. فوحدة «النسيج الوطني» وتآلفه وتناغمه الذي صدع به النظام السابق الرؤوس طبلاً وزمراً في أعقاب كل حادثة تفجير كنيسة أو حرق بيوت أقباط أو اعتداء على محالهم على سبيل تهدئة الأجواء، أصابته بقطع صغير. ولحمة «النسيج الشعبي» مترابطة الأوصال متلاحمة الأنسجة التي عزفت عليها أنظمة سابقة متتالية أنشودة التغييب والتجهيل كلما بدت بوادر فتنة طائفية هنا أو طفحت آثار انهيار التعليم وانكسار مبادئ هناك في غياب شبه تام للدولة، لحق بها قطع كبير. فحتى الأمس القريب كان «النسيج المصري الوطني الشعبي» عبارة سائغة في أبواق الحكم للتغطية على شوائب العلاقات بين «عنصري الأمة» من مسلمين وأقباط. لكن عاماً من حكم الإخوان أدى إلى غزل ونسج خيوط إضافية في «نسيج» الوطن، فلم تعد الخيوط التي تتشابك وتتعثر تقتصر على خيطي المسلمين والأقباط، بل فتح حكم الدكتور محمد مرسي الباب أمام أنوال غريبة على المجتمع المصري مهمتها غزل ألياف اصطناعية تختلف في قوامها وشكلها عن الخيوط الأصلية الطبيعية التي ظلت تقتصر طيلة قرون مضت على المواطنين المصريين من مسلمين ومسيحيين. الألياف الاصطناعية الجديدة أسفرت عن تهتكات عميقة و«عتة» غريبة ضربت النسيج في مقتل حتى تمكنت ضمائر «نحن» و «هم»، وسادت مفاهيم «تيارات الإسلاميين» و «فصائل الليبراليين»، وانتشرت عبارات «المتوضئين» و «الراقصين»، وانقسمت ميادين إلى «شرعية وشريعة» و «انقلابيين» (وفي أقوال أخرى «أنصار المعزول» و «المصريين»)، وتعمقت مفاهيم «عناصر الإخوان» في مواجهة مع «الأهالي» أو «حرائر مصر» في مصادمات مع «المواطنين». مواطنو مصر الذين - مهما بلغت حدة خلافاتهم أو اشتدت صراعاتهم الطبقية أو احتدمت مصالحهم الحياتية - ظلوا نسيجاً واحداً استيقظوا بعد عام من حكم الجماعة وحلفائها على كابوس رهيب ينذر بتفسّخ النسيج وتحلله بعد تفجيره. وما تفجير مبان عسكرية وتفخيخ مواكب رموز أمنية واستهداف كمائن شرطية مصرية من قبل مصريين يجاملون جماعة الإخوان بحثاً عن الشرعية وإمثالاً للقصاص وتحقيقاً للديموقراطية المتأسلمة إلا نموذج فج لما لحق بالنسيج الوطني من تشوهات وخروق وتهتكات ولحن نشاذ. نشاذ التغني بالمصريين باعتبارهما شعبين، يؤمنان بعقيدتين، ويجاهدان على صعيدين، ويغنّيان أغنيتين لم تتوقف عند حد منظومة «تسلم الأيادي» لتمجيد الجيش و «تتشل الأيادي» لصب اللعنات على الجيش نفسه، بل تعدتها لتتحول إلى موجة غنائية مغرّدة بسكين حاد يساهم بتعميق الهوّة ويدعم الفرقة. الفرقة الغنائية المنشدة خلف المطرب علي الحجار أغنيته الجدلية «إحنا شعب وإنتوا شعب» لخّصت ما آلت إليه حال النسيج الوطني. فبعد ثورة غنّى لها الشباب «اثبت مكانك» دون تحدي هوية، وتغزّلت عايدة الأيوبي ب «الميدان يا الميدان كنت فين من زمان؟!» دون التطرق لانتماء من بات في الميدان، وأشادت أنغام بثواره «شيلتوا من عينا الستاير وانكشف عالم جميل» من دون تحديد الفصيل السياسي لمن قام بعملية الكشف، باتت الكلمات كاشفة عن واقع قبيح يكشف عوار النسيج الوطني. يصرخ الحجار مغنياً «إحنا عشّاق الإرادة الحقيقية وإنتوا تجّار المنابر النازلين الصاعدين. إحنا شايفين ابن سينا وابن رشد والحسين، إنتوا شايفين إبن لادن والكهوف المظلمين. عمرنا ماهنبقى زيك ولا أنت هتكون زينا. خذ زعيقك خذ صريخك خذ فتاويك واللجام، وابعد بعيد عن أرضنا». ولأن «العتة» تركت لتنهش خيوط النسيج لسنوات طويلة، فإن دعوة فصيل للفصيل الآخر بترك الأرض نجم عنها رد الآخر بمزيد من تقطيع أواصر الخيوط. «أنصار الشرعية والشريعة» - الذين صبوا جام غضبهم على الحجار ناقلين كلمات أغنيته معتبرين إياها «تكفيراً لهم» و «تحريضاً ضدهم- ردوا بأنشودة للمنشد السلفي ياسر أبو عمار تكشف كلماتها عن سماحة ما يؤمنون به وفحوى الحسنى التي يدعون بها. تقول الكلمات: «إحنا شعب وانتوا شعب. إحنا خدنا العفة راية والشرف مبدأ وغايه، وانتوا شعب من العرايا واعتبرتوا الجنس حب. إحنا سجدة تزيل همومنا او جلسة وسط الصالحين، وانتوا رقص وليل ومغنى وسط حبة مخمورين. احنا بتزورنا الملايكه وانتوا شلة شياطين. إحنا شعب وانتوا شعب احنا ندعو للإيمان، تتفتح لينا السجون، وانتوا تدعو للشيطان والزنا وللمجون». الدعوة لإصلاح النسيج الوطني وترميمه في مثل هذه الأجواء الشديدة الاحتقان تبدو خيالية وإن كانت حتمية. فمسيرات «أنصار الشرعية والشريعة» باتت لا تقابل إلا بتعقب الأهالي لهم أو رشقهم بالبيض والطماطم أو باستفزازهم ب «تسلم الأيادي» أو نعتهم ب «إحنا شعب وإنتوا شعب»، ورد فعل الأنصار يكون عنيفاً مائلاً إلى حرق قسم شرطة أو سب الأهالي أو نعت كل من يتعرض لهم بالخيانة والعمالة والانقلاب، وهو ما ينقله أنصار الجماعة إعلامياً على أنه «نجاح مذهل للمليونية» أو «تأييد منقطع النظير للمتظاهرين» أو «ترحاب مبالغ فيه من قبل السكان» أو «دعم جبّار من الأهالي». أما نسيج الوطن وخيوطه الطبيعية وأليافه الاصطناعية فلا يجمع بينها حالياً سوى التنديد المستمر والشجب الدائم لدعوات المصالحة وجهود التهدئة ومحاولات الترقيع.