منذ أن توفيت أختي قبل أيام، وأنا أشعر بأن جزءاً مني غادر معها للآخرة. أفتقدها، أفتقدني حد الضياع، أنا لم أعد أنا، لم أعد أشبهني كثيراً، أصبحت غريبة عني، يتفاقم إحساسي بتفاهة الحياة، عدم جدواها. أشعر أني مجرد روح، لا تنتمي لهذا العالم، لا تشتهي النوم أو الطعام مثل السابق، يتملكني شعورٌ ممض بالغربة، ينتابني الشك أحياناً أنني لا أزال حية. بعضي يهجرني ليقيم معها، حيث تنام تحت التراب، في القبر أيضاً تهش كعادتها لقدومي، يبهجني فستانها الأصفر المزين بالورود، تستقبلني بكامل صحتها، توسع لي مكاناً بقربها، نستلقي فوق التراب على جانبينا متقابلتين، نتسامر، نضحك. أهزني، أتحسس بعض ماديتي، فيتأكد لي بأني لم أنسل بالكامل بعد من هذه الدنيا. الموت يبدو لي أقل وحشة مما كنت أشعر حياله، وأكثر تشويقاً وإثارة من الحياة، فضولي يزداد تجاهه، وتزداد رغبتي في تجريبه. تجربة الفقد دائماً مرة، لكنها هذه المرة مختلفة. عندما فقدت أبي كنت صغيرة، شعرت وقتها بأني كفرخ عصفور، وقع من أعلى شجرة كانت تضم عشه، في حين أورثني فقد أختي حالة من الانشطار، والمراوحة بين عالم الدنيا وعالم البرزخ، أختي التي قاومت المرض ببسالة نادرة ثلاثة أعوام، صرعها المرض أخيراً، لكن عندما أزورها هذه الأيام في عالمها الجديد هناك أو تحضر هي لزيارتي هنا، أراها كما كانت طوال عمرها شعلة نشاط. تطلب من أمي أن تخلد للراحة، في حين تطهو هي لنا الطعام اللذيذ، تقبض على يدي الصغيرة، تقودني كطفلة مدللة للمسبح، تقوم بتحميمي، تطعمني قطع البسكويت المحلى بالسكر، تصحبني بسيارة زوجها في نزهات حلوة مع أسرتها الصغيرة، تبتاع لي ولطفلتها البكر حبات الفلافل والسنبوسة، وتشتري لنا فستانين متشابهة للعيد، ترافقني لإلحاقي بالمدرسة الابتدائية، تنثر الرياحين خلفي وتمشي في زفتي ليلة العرس. في آخر زيارة لي لها بالمشفى حيث ترقد منذ شهور، وقبل وفاتها بيوم، قابلت الموت الذي لا أعرفه فجأة في غرفتها، كان منكباً على الجسد الذابل يتفنن في رسم خطوط لوحته الجديدة، بكيت بحرقة وقد عرفت ماذا يعني شخص يحتضر. أخبرتها كم أحبها، كم أشتاق لعودتها، مسدت شعرها، مررت أصابعي كثيراً على جبينها، خديها، وأنا أتمتم ببعض الآيات والأدعية. هي الليلة الثانية عشرة منذ رحيلها، الليل مضى وأنا أتقلب يمنة ويسرة على الفراش، بالكاد أغفو، يتناهى لي صوتها يناديني، لا أصحو، تقترب خطاها من سريري، أفتح عينيّ. كانت صغيرتها النائمة معي بالغرفة تبكي، أنهض، أضمها، ألتفت حيث سريري لا تزال أختي واقفة بجانبه ترمقنا بحب، تبتسم، خطواتها تأخذ في الابتعاد ناحية باب الغرفة، أبعد الصغيرة عن حضني قليلاً، أحاول النهوض للحاق بأختي، يعلو وجهها الامتعاض، تثنيني عن اللحاق بها بإشارة من يدها وتبتعد أكثر. * قاصة سعودية.