جاء في خطاب الرئيس الأميركي باراك أوباما حول استخدام النظام السوري للسلاح الكيماوي في ما أطلق عليه إعلامياً ب"مجزرة الغوطة" أن الولاياتالمتحدة الأميركية ستتدخل لمعاقبة الأسد لأسباب عدة، أسردها هنا بحسب ترتيبها في خطاب أوباما: لأن قتل الناس بالسلاح الكيماوي إهانة لكرامة البشر، ولأن استخدام الأسلحة الكيماوية يهدد الأمن القومي الأميركي، ولأنه يهدد أصدقاء الولاياتالمتحدة في المنطقة "ذكر إسرائيل والأردن والعراق ولبنان". كانت هذه الأسباب الرئيسة التي أضاف إليها لاحقاً خرق القوانين الدولية التي تحظر استخدام الأسلحة الكيماوية. وبعد ذلك، تحدث الرئيس الأميركي عن جهوزية الولاياتالمتحدة لشن هجوم محدود لمعاقبة الأسد، وأن هذا الهجوم سيتم في أية لحظة. لكنه أضاف رغبته في الحصول على تفويض من ممثلي الشعب في الكونغرس، لأن أميركا أمة ديموقراطية. وهنا أكد أوباما في الخطاب على استحقاق سورية لأن تكون ديموقراطية، وأن أميركا دولة لها قيم تربى عليها أبناؤها، وأن الأمة الأميركية على عاتقها مسؤولية منطلقة من إيمانها في حق الإنسان بالحياة في كرامة وسلام. هل هذه المبررات التي ساقها الرئيس الأميركي لشن هجوم محتمل على نظام بشار الأسد حقيقية أم مختلقة وللاستهلاك الإعلامي؟ سأستبعد هذا السؤال هنا بهذه العمومية، فلن أحكم على إن كان الأسد خطراً على أصدقاء الولاياتالمتحدة في المنطقة أم لا، وهل من واجب أميركا حماية أصدقائها أو تركهم لمصيرهم. كما أني بذات اللحظة لن أقوِّم إن كان الأسد خطراً على الأمن القومي الأميركي أو لا، أو خرقه للاتفاقات الدولية المختصة باستخدام السلاح الكيماوي يهدد السلم العالمي أو هي مجرد مبالغة. لكن سأتحدث هنا فقط عن الخطاب القِيَمي والأخلاقي الذي طرحه الرئيس الأميركي، والمتعلق بالتدخل في سورية حماية لكرامة البشر التي أهانها نظام الأسد عندما استخدم السلاح الكيماوي المحرم دولياً، وأن هذه المهمة تلقى على عاتق الولاياتالمتحدة، لأنها أمة قامت على حق الإنسان بالكرامة والسلام. فعلياً، ما نعرفه من وقائع أن الولاياتالمتحدة لم تكن يوماً مهتمة بالكرامة الإنسانية، ولم تهتم بالسلام العالمي أو حقوق الإنسان. الوقائع التاريخية تثبت أن الولاياتالمتحدة تأسست على إبادات جماعية للشعوب الأصلية في تلك المنطقة من الأرض، وأن هذا السلوك البربري مستمر حتى اللحظة باستخدام الولاياتالمتحدة "للدرونز" في حملات اغتيالاتها المسعورة اليوم، مروراً بالمرة الوحيدة التي استخدم فيها السلاح النووية في العالم كان بأصابع أميركية. ذاكرة الصحافة اليومية القصيرة ماذا تحوي عن "حماية أميركا لكرامة الإنسان"؟ تحوي صور سجن أبوغريب، والتقارير المسربة على أساليب التعذيب التي سمح الرئيس الأميركي السابق بوش باستخدامها في غوانتنامو. كما تحوي فيلم قناة البي بي سي وصحيفة الغارديان عن دور الولاياتالمتحدة في إشعال الحرب الطائفية في العراق، وصوراً لآلاف القتلى في أفغانستان واليمن والباكستان بالدرونز (الطائرات بلا طيار) التي تأتمر في شكل مباشر بأوامر باراك أوباما. يبدو أيضاً أن حق الإنسان بالكرامة لا يتناقض في نظر الرئيس الأميركي بالتجسس عليه. وانتهاك "مجاله الخاص" من خلال البرامج التجسسية الضخمة التي تم الكشف عنها أخيراً من "سنودن"، مثل ما أطلق عليه اسم "الميزانية السوداء" التي كشفت عنها صحيفة الواشنطن بوست الأميركية، إذ رصد ما يقارب من 52 بليون دولار لأنشطة أجهزة المخابرات الأميركية التجسسية. نحن أمام وقائع لا يمكن إنكارها، الولاياتالمتحدة تستخدم خطاباً أخلاقياً وقيمياً لتبرير سلوكياتها وانتهاكاتها للأخلاق والقيم. لا يمكن مواجهة هذا الخطاب الذي ينتهك الأخلاق والقيم إلا بخطاب لا يفصل بين السياسة والأخلاق. فالممارسة الدولية للسياسة تحاول أن تستتر بخطاب أخلاقي وقيمي لا يمكن مواجهته إلا بخطاب من ذات الجنس. والمسألة ليست "براغماتية" بل إن الإشكال الأول في السياسة اليوم أنها تتجاهل أية قيم أخلاقية، باعتبار أنها تقوم بتأليه الدولة، وجعل الدولة معياراً لكل شيء. الخطورة هنا، أننا لو سلمنا أن ممارسة السياسية منفصلة عن الأخلاق، فسيكون كل شيء مبرراً، ولن نجد معياراً نحكم من خلاله على السياسة إلا مبدأ القوة والمصلحة. وبالتالي، سيكون "كل شيء مباحاً" للأقوى، ولن تصبح هذه المقولة أمراً واقعاً فقط بل لا يمكن إدانتها. الفصل بين السياسة والأخلاق مستحيل، فالإنسان كائن أخلاقي على حد تعبير الفيلسوف المغربي طه عبدالرحمن "الأخلاقية هي ما به يكون الإنسان إنساناً"، ويضيف: "الأخلاقية هي وحدها التي تجعل أفق الإنسان مستقلاً عن أفق البهيمة". فهو يرى أن الإنسان يشترك مع الحيوان في "العقلانية المجردة". بينما يستفرد الإنسان ب"العقلانية المسددة بالأخلاقية" باعتبار العقلانية تابعة للأخلاق باعتبار الإنسان كائن أخلاقي كما أسس لهذا في كتابه "سؤال الأخلاق". إن كان تحرر السياسة من الأخلاق أمراً واقعاً، فهذا لا يعني أن نستسلم لهذا الأمر الواقع، ونبدأ بالتكيف معه وتبنيه. ومن ناحية أخرى، لو فصلنا الأخلاق عن السياسة فما معنى "العدل" و"الظلم" و"الكرامة" وغيرها من المفاهيم. يمكن فهم أن نستمع إلى التنظير لفصل الأخلاق عن السياسة من رجال السلطة، لتبرير سلوكياتهم اللاأخلاقية، وقل أن يقولوا هذا بل هم يستخدمون لافتات أخلاقية، لكن الغريب أن يتم تبني الفصل بين السياسة والأخلاق ممن يحمل انتقادات للنظام السياسي العالمي، لكونه غير عادل أو ينتقد نظاماً سياسياً معيناً، انطلاقاً من تبني مفاهيم عدل اجتماعي ومساواة. *كاتب سعودي. [email protected] alyemnia@