من المؤكد أن هناك عدداً لا يُحصى من المفكرين والباحثين والمدرّسين والتربويين والآباء والأمهات في كل أنحاء العالم، يضعون نصب عيونهم تحسين طرق التعلم والتعليم في محيطهم، ويبذلون كل ما بوسعهم لحصد نتائج إيجابية، آخذين في الاعتبار اللحاق بالتكنولوجيا الرقمية ودهاليزها التي تبدو لبعضهم معقدة. ومن المؤكد أن هؤلاء لا يعرفون بعضهم بعضاً ولا يعرفون أبرز النتائج الإيجابية التي توصّل إليها مثلاً مبتكر برامج إلكترونية تعليمية في غانا، أو مدرسة صغيرة في جبل لبنان أو في أي مكان آخر من الكرة الأرضية... من هنا تأتي أهمية كتاب «التعلّم وفق تصوّر جديد: دور المجتمعات المتصلة رقمياً في إحداث تطوّر في أساليب التعلّم» الذي يصدره مؤتمر القمة العالمي للابتكار في التعليم «وايز». هذا الكتاب الذي كتبه وأعده الخبير البريطاني غراهام براون مارتن مؤسّس مختبرات تصميم التعليم «Education Design Lab» وبرنامج «التعلم بلا حدود»، وتولّت مهمّة التصوير الفوتوغرافي فيه الإيرانية نيوشا تافاكوليان، يساهم في مساعدة كل العاملين في حقل التربية والتعليم على معرفة ما يقوم به الآخر والاطلاع على نتائج عمله، ليتشاركوا التجارب ويتشاطرونها، وربما يعملون معاً كل من مكانه لتصبح لدينا إستراتيجية تعليمية حديثة كاملة مكتملة وعالمية. لكن هنا يُنبّهنا مارتن الذي ابتكر مشروع «kickstarter» لمساعدة الأولاد على التعلم من خلال الكومبيوتر بطريقة التشفير، وبعدما زار وتافاكوليان أكثر من 13 بلداً لكتابة هذا الكتاب المرجع، إلى أنه «لا يوجد مقياس واحد للتعليم يناسب كل المجتمعات والبيئات». وهو ما توصّل إليه من خلال مقابلاته وزياراته غانا ودبي وسنغافورة والأردن والمملكة المتحدة والولايات المتحدة والبرازيل وكوبا وكندا وقطر والصين والهند وروسيا، لدراسة حالات مؤسسات خاضت تجارب تعليمية مستحدثة ومقابلة قادة فكر وتربية، إضافة إلى إرساء نظرة عالمية للوسائل التي تستخدم التكنولوجيات الرقمية بهدف تحسين التعلّم والفرص التعليمية. ليكن المدرّس ناقداً وصديقاً يتناول «التعلّم وفق تصوّر جديد» كيفية تغيير التعلّم والتعليم في مجتمع رقمي، وهو الكتاب الثالث الذي تصدره «وايز» بعد «تعلّم مهارات العمل: ابتكار جذري لمواءمة مخرجات التعليم مع متطلبات سوق العمل» (2013)، و «الابتكار في التعليم: دروس مستفادة من الرواد عبر العالم» (2012). وطرح غراهام أسئلة رئيسة عدة أهمها لماذا لا يزال تأثير التكنولوجيا محدوداً للغاية في تحسين نتائج التعليم. ويرى أن مردّ ذلك «قد يعود إلى أننا ما زلنا نستخدم التكنولوجيا لتعزيز طريقة التعليم المعتمدة في القرن التاسع عشر كي يتماشى مع نماذج تقويم عفا عليها الزمن». ويشير إلى أن معظم مناهج التعليم والتقويمات في العالم تستند إلى التذكّر وليس إلى إثبات أن التلميذ تعلّم شيئاً في إمكانه استخدامه في حال اضطر إلى حلّ مشكلة». ويدعو مارتن هنا عبر هذه الصفحات ال 165 الملوّنة والعالية الجودة من ناحية الطباعة والصور الفوتوغرافية الشيّقة واللقطات الذكيّة، إلى تحديد الغرض من التعليم أولاً، وتحديد الوقت اللازم لحصد نتائج هذه الخطة أو تلك. وفي ظلّ النقاش الدائر حول الاستغناء عن المدرّسين في ظلّ التكنولوجيا الرقمية، يؤكد مارتن من خلال سنوات خبرته الطويلة ومن خلال هذا الكتاب والتجارب الذي عاينها ولمس نتائجها، أن «المحاولات الرامية الى الاستغناء عن المدرسين لمصلحة التكنولوجيا لا طائل منها على الإطلاق». ويؤكد أن رحلة التعلّم والتعليم تحتاج الى مدرّسين كفوئين وموهوبين وملتزمين، وبالتالي فإن المدرّس الملتزم ينتج تلميذاً ملتزماً. وهنا يشير الى أن دور المدرّس يتبدّل أيضاً ليتلاءم مع التطورات التعليمية والتكنولوجية. ومع مرور الزمن تحوّل المدرس من ملقّن الى مرشد يساعد الطلاب على سبل البحث وكيفية استخدام المعلومات. واليوم آن الأوان ليكون المدرّس المستقبلي الصديق الناقد أو مدرّب التعليم. وهنا يوصي مارتن بتدريب المدرّسين لتمكينهم من التحوّل الى مصمّمين ومبتكري فرص تعليمية بدلاً من أن يبقوا عمالاً يوصلون المعلومات. ويؤكد أنه «في ظل عدم حدوث تغيير في طريقة التدريس لن يُستفاد كثيراً من التكنولوجيا». يشدّ كتاب «وايز» هذا، القارئ من اللحظة الأولى، ليس فقط لفكرته الفريدة وتقسيمه المنظّم والمريح، بل لأنه مصمّم بطريقة بصرية لافتة ومريحة للعين وفيه خرائط توضح موقع كل بلد زاره مارتن وتافاكوليان، ولقطات فوتوغرافية ذكية ومعبّرة تنقل تفاصيل في وجوه الطلاب وفي وجوه مدرّسيهم وحول بيوتهم وفي الأمكنة التي يلعبون ويدرسون فيها. فالنصّ المكتوب بلغة سهلة وبسيطة ويعتمد البحث الدقيق والمقابلات وملامسة الواقع من قرب، لا يقلّ أهمية عن الصور الملوّنة التي تكاد تنطق وتحكي ما وراء تلك التجارب التعليمية. هو كتاب مشغول بمهنيّة من الناحية البحثيّة أولاً، ومن الناحية الإخراجية والتصميميّة والبصريّة ثانياً. وهي خطوة ذكيّة لتشدّ القراء إلى تصفّح الكتاب ومتابعته من الفهرس إلى الخاتمة. ثم أنه كتاب غير تقليدي في أسلوبه الذي يبتعد فيه مارتن كل البعد عن اللغة الخطابية الجافّة التي تتحدّث عن التكنولوجيا كأنها أسطورة أو سحر سيُغيّر العالم بكبسة زرّ. وهنا حرص مارتن على التعريف بالنوع والإضاءة على المشاريع التعليميّة التي تقام ويحاول القيّمون عليها تنفيذها وتطبيقها، وعلى الصعوبات والتحديّات والنجاحات في ثقافات وبيئات مختلفة، وكل ذلك يدعّم بالوثائق والمقابلات والأمثال الحيّة. وبما أن الكاتب غراهام براون مارتن يرفض مبدأ «المقاس الواحد يناسب الجميع» ويعتبره مبتذلاً، نراه هنا يدرس كل حالة أو كل بلد أو كل تجربة على حدة. لا بل يعطي لمحة وخلفيّة عن كل بلد زاره وعن كل مؤسسة تعامل معها. وتوصّل إلى أن تغيير التعلّم والتدريس وطرقه المبتكرة، هو هدف عالمي تتوق إليه كل الدول التي زارها. غانا كما لم نرها من قبل في القسم المخصّص لتجارب غانا الريادية، أجرى مارتن مقابلة مع كولن ماك إلوي أحد مؤسّسي «Worldreader» المؤسّسة غير الربحية التي تعمل لتشجيع قراءة الكتب لتلامذة المدارس الابتدائية ومن ثم لعائلاتهم، من خلال برنامج يحمل هذه الكتب على هواتف ذكيّة أو تابلت ذكيّ. وأُطلقت هذه المؤسّسة في غانا من مؤسس «أمازون دوت كوم» ديفيد ريتشير ومدير كليّة «ESADE» للتسويق كولن ماك إلوي. وفي العام 2013، وزّعت أكثر من 800 ألف كتاب لأكثر من 12 ألف طفل في 9 دول أفريقية. و»من خلال منصة هواتف «Worldreader» الخليوية، هناك أكثر من نصف مليون شخص يدخلون ويستفيدون من مكتبتنا التي تضم 2000 كتاب»، كمال يقول كولن. ويضيف: «ما شرحناه وتقاسمناه مع الناشرين أنه عندما نتحدّث عن ملف ما أو كتاب ما وتحويله إلى «ePub» أي وثيقة منشورة إلكترونياً، تنتقل سوقه من المحلي الضيّق إلى السوق العالمية». وفي هذا القسم الذي قد يكون الأجمل في الكتاب، خصوصاً صوره، يلقي مارتن الضوء على تجربة «Mobil Web Ghana» في العاصمة أكرا ويحكي قصّة نجاح أخرى من غانا. عوسج قطر أمل كثيرين في القسم المخصّص لقطر، يُعطي مارتن لمحة عن تغيّر هذه الإمارة الصغيرة المستمر وتطوّرها السريع على الصعيد التكنولوجيّ والسياسيّ والاقتصاديّ والمعماريّ والبنى التحتيّة، كما على الصعيد التربوي. ويقول إن «قطر تستثمر في التعليم والتربية في كل المستويات، بدءاً من معرفة القراءة والكتابة وصولاً إلى البحث المعمّق والتعليم العالي...». ومن ثمّ ينتقل إلى تجربة «أكاديمية عوسج» المتخصّصة بتعليم الأطفال الذين يواجهون تحديّات في التعلّم، منذ العام 1996، والتي يرى مارتن أنها نجحت، ليس في طريقة التعلّم، بل وفي فتح حوار مستنير في العالم العربي حول الأطفال من ذوي الحاجات الخاصة. ويُبينّ أن طريقة «عوسج» في التعليم والاهتمام بالأطفال ذوي الحاجات الخاصة والصعوبات التعليمية، هي تحدٍّ بحدّ ذاته ومغامرة مهمة في منطقة الخليج العربي. ويجري مارتن مقابلة مع رالف بروت مدير أكاديمية «عوسج» يسأله فيها عن هذه التحديات والجدل الذي فتحته في المنطقة حول كيفية تعليم ذوي الحاجات الخاصة، وحول مقارنتها بمدارس وأنظمة تعليمية أوروبية وأميركية، وحول طريقة التدريس واستخدام التكنولوجيا الرقمية مع طلاب «عوسج»، وحول رؤية الأكاديمية المستقبلية وحجم تأثيرها في التنمية في قطر والبلدان المجاورة وغيرها من الأسئلة. في القسم المخصّص للبنان، يأخذ مارتن مدرسة «Eastwood College» ليدرس حالتها. وهي مؤسسة عائلية أسسها في العام 1973 أمين خوري (رئيسها الحالي) بمساعدة البريطانية هيزيل سانت جون الحائزة جائزة من الملكة إليزابيث الثانية في العام 1971 على خدماتها التربوية للأطفال في الشرق الأوسط. ويدير المدرسة اليوم ميشال ابن أمين، ولها فرعان، الأول في كفرشيما (جبل لبنان) والثاني في المنصورية (المتن). وبعد مقدمة عن طبيعة هذا البلد وما يعانيه من حروب كبيرة وصغيرة، وظاهرة ومستترة، يصف مارتن رحلته إلى هذا البلد «السياحي الجذاب». ويشرح كيف استطاعت المدرسة أن تطوّر منهاجها التعليمي الخاص بعيداً من أي إستراتيجية حكومية أو رسمية للتعليم، وكيف كانت السبّاقة في المنطقة في اعتماد نظام اللوحات الرقمية، إذ يملك كل تلميذ وأستاذ في المدرسة جهاز «أي باد» موصولاً بجهاز تلفزيون من «أبل» في كل غرفة تدريس لتقاسم المعلومات. ويجري مارتن مقابلة مع المدير ميشال خوري، يحدثه فيها عن تاريخ المدرسة والصعوبات التي واجهتها في ظل الحروب والاضطرابات الأمنية وتأثير عدم الاستقرار العام فيها وعن نظرته إلى المستقبل التعليمي ومستقبل طلاب المدرسة هذه تحديداً، وحول الاستفادة من التكنولوجيا الرقمية التي جعلت كل المعلومات بين أصابع أي طالب من دون أن يكون في حاجة إلى تحفيظها في ذاكرته والتي حوّلت التعلّم من أسلوب التلقين والتذكّر إلى فهم الأسلوب واستيعابه لاستخدامه في الحياة العامة وبالتالي أن يتلقّى التلميذ المقدار نفسه من الذكاء والتعلّم كأستاذه. وإذا عدنا إلى مقدّمة هذه المقالة، حول إضاءة كتاب «وايز» على مشاريع ومدارس وخبراء قد تكون إلى جانبنا ولا نعرفها. أردت أن أسرد لكم ما حصل معي وأنا أتجه كل يوم من بيتي من منطقة الجيّة (جنوببيروت) إلى مكان عملي في وسط بيروت، سالكة طريق الشويفات - كفرشيما - الحدث. في طريقي إلى العمل، أفكّر كل يوم بكيفية تعليم ابنتي الصغيرة أفضل الطرق لأصنع منها امرأة راشدة حرّة ومبدعة، وكي لا تكون متلقية سلبية. أفكر وهذا هاجسي اليومي، وأنا أمرّ بطريق مليئة بالمدارس الرسمية والخاصة، أي لغة سأعلّمها الفرنسية أم الإنكليزية؟ هل سأجني عليها باعتماد لغة موليير المفضّلة عندي أنا التي تربّيت وتعلمت في مدارس تعتمد النظام الفرنسي في التدريس؟ ثم أصل إلى اختيار مدرسة لها، وهو الخيار الأصعب في ظل انتشار مدارس تجارية التي لا تبغي إلا الربح، في بلد مثل لبنان لا إستراتيجية تعليمية واضحة فيه ولا منهاج يتلاءم مع مستلزمات العصر. كنت أمرّ يومياً من أمام مدرسة «إيست وود كولدج» التي يدرس مارتن حالتها في هذا الكتاب. وكنت أعتقد أنها مدرسة تجارية، تجني أرباحاً طائلة من دون أي خطّة عمل. لكنني عندما قرأت رأي مارتن فيها وما قام به مؤسس المدرسة وابنه من جهود جبارة ومبتكرة تحاكي المجتمع الرقمي وتحاكي ذكاء الطفل ومستقبله، قرّرت أن «إيست وود كولدج» ستكون مدرسة ابنتي بعد سنتين.