طغت المواضيع القاسية والأزمات الاجتماعية على معظم البرنامج الذي تشكلت منه الدورة ال70 لمهرجان البندقية السينمائي الذي يقام على جزيرة الليدو من 28 آب (أغسطس) إلى 7 أيلول (سبتمبر). مساء غد، سيعلن المخرج الإيطالي برناردو برتوللوتشي ولجنة التحكيم التي يترأسها، قائمة الجوائز، يتقدمها الفيلم الذي سيفوز ب»الأسد الذهبي». ترى مَن سيكون خلف المخرج الكوري الجنوبي كيم كي دوك الذي استحق العام الماضي ذهبية ال «موسترا» عن فيلمه «بييتا»؟. أياً يكن، فالتيمات التي تمحورت عليها الأفلام المختارة من جانب المدير الفني ألبيرتو باربيرا وفريقه لهذا العام، عكست حال الدنيا: عائلات مفككة، انهيار أخلاقي، إثم، انتحار، مرض. ابتعد السينمائيون ولو قليلاً عن السياسة، للتركيز على ما يعتمل في النفس البشرية من اضطرابات وقلق وتفكيك لمعاني الوجود، علماً أن كل شيء في الآخر يصب في خانة السياسة بالمعنى الواسع للكلمة. وإذا كان الأبطال هم دائماً ضحايا هذه النظرة القاتمة التي لا توفر أي مَخرج للوضع الإنساني وأيّ خلاص لمحنته، فالمشاهد - الشاهد هو الذي دفع ثمنها في أغلب الأحيان، من شدة تماهيه مع معاناة الآخرين ومن قهره عليها. بدءاً بالمصيبة الفيلم الأكثر تعبيراً عن هذا الميل الراديكالي إلى قلب الطاولة على رؤوس المشاهدين وأخذهم ك «رهائن» طوال ساعة ونصف الساعة، هو «ميس فايلنس» للمخرج اليوناني ألكساندروس افراناس. لا تمر على بدء الشريط إلا دقائق معدودة حتى تقع المصيبة الأولى: طفلة لا تتجاوز العاشرة من العمر تقفز من اعلى الشرفة لتنهي حياتها على هذا النحو. التحقيقات التي ستجرى ستكشف أولاً عائلة «مثالية» فوق الشكوك، لكن شيئاً فشيئاً ندخل في جانبها الحميمي ومناطقها المظلمة، فنقتحم الأبواب المغلقة ونعلم بعض الأسرار الفظيعة التي يخجل المرء أن يسمعها. بدلاً من معالجة الأزمة الاقتصادية التي تعصف ببلاده منذ بضع سنوات، فضل أفراناس الذي يمكن ضمه إلى الحراك السينمائي الحاصل في اليونان أخيراً، الذهاب إلى تداعياتها الأخلاقية. فربّ العائلة رجلٌ يتحكم بكل صغيرة وكبيرة في المنزل، ويقرر عن الجميع وينزل فيهم أحياناً العقوبات. وهؤلاء يتقبلون ما يحل بهم من دون اعتراض. ينطوي نصّ افراناس على كمية غير مظنونة من العنف، لكنه عنف من النوع الخبيث الذي يؤذي المشاهد «على السكت». لا مشاهد صريحة (إلا قبل النهاية بقليل) عن هذا العنف، ولكن حضوره يذوب في الأحداث والتطورات الدرامية وفي علاقة الأفراد ببعضهم بعضاً، وصولاً إلى الاكتشافات التي تغرق المشاهد في المزيد من الصدمة والأسى. جدران وأبواب الشقة التي يموضع فيها افراناس كاميراه عناصر محورية في الفيلم. خلفها يحصل كلّ شيء بعيداً من أنظار المجتمع وبعيداً من أنظار المشاهد. لكن، هناك لحظة سيتصدع فيها كل شيء. عُرض الفيلم في المسابقة الرسمية، وهو أحد أقوى المرشحين للجائزة الأولى. أما الممثل الذي أدى دور الأب، تميس بنو، فيستحق أفضل ممثل للشخصية المرعبة التي جسدها، بحيث استطاع أن يضع كل الشذوذ الأخلاقي الذي يعاني منه على تعابير وجهه وتفاصيله الثابتة والمتحولة. فيلم آخر عن العنف المنزلي في المسابقة نزل كالصاعقة على المشاهدين: «زوجة ضابط في الشرطة» لفيليب غرونينغ. العنصر المشترك بين فيلم أفراناس وهذا، هو تلك البرودة في النظرة وذلك النزول التدريجي إلى الجحيم، وصولاً إلى الخبطة الأخيرة الموجعة والناتجة من يأس. زوج وزوجته (ديفيد زيمرشيد وألكسندرا فيندر) نراهما يعيشان حياة مستقرة في منزلهما الواقع في منطقة لا نعرف عنها الكثير ولا نرى من جوارها أي شيء مهم. هو، ضابط في الشرطة، تثبت تصرفاته الميدانية أن علاقته بالمهنة غير سوية. هي، تهتم بطفلتها في المنزل. في البداية، نلمس بعض الانسجام في العلاقة التي تربط الزوج بزوجته. ثم في الدقيقة ال35 تقريباً، يعنّف الرجل زوجته لأتفه الأسباب: ذهابها إلى الفراش من دون أن تقول له «عمت مساء». مرة أخرى، يتعلق الموضوع بما يحصل خلف الجدران، عندما يقفل الناس أبواب قمقمهم. مرة أخرى، لا يعطينا المخرج كل المفاتيح دفعة واحدة، بل يوزع أحداث الفيلم على نحو 50 فصلاً، بعض تلك الفصول لا يتخطى الثواني أو الدقائق القليلة. فيتوجب علينا تالياً تحمل كل هذه الإظلامات التدريجية إلى السواد، وهي الشيء التي تستهلك الجزء الأكبر من الفيلم، لكنها ضرورية على ما يبدو لتماهينا مع الحالة العنفية للعائلة. مناخات هيتشكوكية وبالطريقة نفسها تقريباً، تواصلت النزعة العنفية في أفلام المسابقة التي أظهرت علاقات غير سوية بين شخصيات تمارس العسف على بعضها بعضاً. وكان للمشاهدين محطة مع فيلم المخرج الكندي الشاب كزافييه دولان، «طوم في المزرعة»، الذي يأخذنا إلى أقاصي الريف الكندي برفقة طوم (يؤدي دولان الدور)، الذي كان على علاقة لا نعرف طبيعتها بشاب يموت جراء تعرضه لحادث سير. يسافر طوم إلى قرية الراحل لتقديم التعازي، وهناك سيتعرف الى والدة المرحوم وشقيقه الأكبر، وستنشأ بينه الثلاثة علاقة غير ندية قائمة على الامتلاك والتعذيب النفسي. دولان سينمائي كندي يبلغ ال24 من العمر، وذاع صيته في السنوات الأخيرة بعدما شاركت أفلامه في مهرجانات دولية مهمة، منها كانّ. هذا رابع شريط يخرجه، بعد ثلاثيته عن الحبّ المستحيل. الحبّ حاضر في جديده، لكن بشكل مختلف. اختار دولان المعالجة المتوترة، مغرقاً نصه البصري في مناخات التشويق التي تذكر بهيتشكوك. وسنده في ذلك المؤلف اللبناني غبريال يارد الذي وضع للفيلم موسيقى تصويرية في منتهى الروعة. فيلم آخر لم يقل عنفاً عن بقية الأفلام، هو ذاك الذي جاءنا به المخرج الياباني الكبير هاياو ميازاكي عن جيرو هوريكوشي، أيقونة الصناعة اليابانية. انه «الرياح تهب»، الذي سيكون الأخير لمعلم سينما التحريك، وفق ما نقل عنه غداة عرض الفيلم في البندقية. وقد تلتفت إليه لجنة التحكيم لأكثر من سبب. مرة جديدة يعانق ميازاكي تاريخ بلاده، خضاتها وتحولاتها، من خلال شخصية مصمم القاذفات المقاتلة التي أعادت إلى اليابان ثقتها في نفسها. جيرو، البطل، شاهد على مراحل أساسية من سيرة الأمبراطورية. فهو ينجو من الهزة الأرضية التي ضربت طوكيو عام 1923، ثم يتعايش مع الأزمة الاقتصادية الكبرى، قبل أن يصبح شاهداً على حرب ستدمر كل شيء، بدءاً من البشر وصولاً إلى الآلات التي صممها. طبعاً، يضع ميازاكي في الفيلم الكثير من شخصيته العاطفية سواء كرسام أو كمخرج، متفوقاً في كل ما يتعلق بمشاهد الملاحة الجوية، وهي المشاهد التي احتلت سابقاً مكاناً خاصاً في عمله. منذ صدور «الرياح تهب» في الصالات اليابانية في تموز الماضي، ويواجه المخرج تهماً كثيرة، منها المبالغة في تصوير أناس يدخنون. أما الاتهام الآخر، والذي لا ينحصر في اليابانيين فقط، هو نظرته النوستالجية إلى الماضي وعدم النظر بشكل أعمق في الحلف الذي ربط ألمانيا النازية باليابان في واحد من أكثر صفحات التاريخ سواداً. جوناتان غلايزر، هو الآخر، اختار إنزالنا إلى الليل الحالك. المخرج البريطاني الذي اشتهر بصناعة الأغاني المصورة، يعود إلى السينما بعدما انقطع عنها تسع سنوات. اطلالته الأخيرة كانت مع «ولادة» من بطولة نيكول كيدمان. منذ ذلك الوقت، لم نسمع عنه شيئاً. مع «تحت الجلد»، المشارك في المسابقة، اعطى النجمة سكارليت جوهانسون أحد أفضل أدوراها، جاعلاً منها كائناً لا ينتمي إلى فصيلة البشر، وغير معروف أصله وفصله. هي على الأرض في زيارة لتكتشف الأحاسيس التي لم تختبرها يوماً. تجوب الشوارع ليلاً في بلد يفترض أنها اسكوتلندا، وبشاحنتها تقل الرجال الذين تلتقيهم. نراها تأخذهم إلى نوع من بحيرة يغطيها الظلام. في تلك البحيرة يذوب الرجال. استخدم غلايزر موسيقى تصويرية تشكل جزءاً لا يتجزأ من مناخ هذا الفيلم الذي يتعذر تصنيفه، وهو لقاء بين خيال جامح وحرفة عالية وعقل تجديدي. وسط هذا كله، بدا نيكولاس كايج، المشارك في المسابقة بفيلم «جو» لديفيد غوردن غرين، التائب الوحيد ضمن برنامج ازدحم بالشخصيات الآثمة. يأخذنا الفيلم إلى منطقة ميسيسيبي الأميركية، إلى عمق الغابات حيث عمال همشهم المجتمع. في هذه البيئة القاسية، يلتقي جو (كايج)، الخارج حديثاً من السجن بمراهق (تاي شيريدان) يعاني من والد مدمن يمارس عليه العنف. هذا الشريط المقتبس من رواية للاري براون، يمنح أبطاله فرصة ثانية ليمسكوا مجدداً بشؤونهم الحياتية. لكن مرة أخرى، الأقدار هي التي تقرر!