أثار التصعيد العراقي الأخير مع سورية بعد تفجيرات «الأربعاء الأسود» إذا ما قورن مع مسار العلاقات في الأشهر الأخيرة، تساؤلات وما اذا كانت الاتهامات العراقية تخفي وراءها أسباباً داخلية وسعي حكومة نوري المالكي لاستغلال التفجيرات لتحقيق أهداف سياسية. على صعيد التسلسل الزمني في الوقائع، يمكن الإشارة الى تزامنها مع ثلاثة تطورات: أولاً، جاءت التفجيرات بعد يوم واحد من زيارة المالكي الى دمشق رداً على زيارة نظيره السوري محمد ناجي عطري في نيسان (ابريل) الماضي عندما كلف رئيسا الوزراء وزيري الخارجية السوري وليد المعلم والعراقي هوشيار زيباري تقديم مسودة مقترحات ل «اتفاق تعاون استراتيجي». وكانت زيارة المالكي الى دمشق الثانية عندما جاء في آب (أغسطس) العام 2006 يبحث في العاصمة السورية عن «شرعية عربية» ودعم للعملية السياسية والمصالحة التي يقودها، قابلتها دمشق بالإيجاب وبتشجيع أطراف إقليمية ودولية لدعم «رئيس حكومة المصالحة الوطنية». أما الآن، فإن التفجيرات حصلت فور زيارة المالكي التي أسفرت عن إعلان مشترك لتشكيل «مجلس للتعاون الاستراتيجي» يشمل كل المجالات بما في ذلك التعاون الأمني والعسكري بهدف «تطوير العلاقات في المجالات العسكرية والاتفاق على إطار لهذه العلاقات يشمل التدريب والتعاون العلمي الفني في المجال العسكري وآلية للحوار العسكري عالي المستوى وتعزيز وتوسيع التعاون الأمني وتطوير شراكة استراتيجية في مكافحة الإرهاب». ثانياً، اعلان الرئيس بشار الاسد خلال جولاته الاخيرة على اكثر من دولة اقليمية وأوروبية عن رؤية استراتيجية تقوم على ربط البحور الاربعة: الاحمر، الابيض المتوسط، قزوين والخليج العربي، بحيث يتشكل فضاء اقليمي للربط في مجالات الطاقة والنفط والغاز وخطوط النقل، اضافة الى تعاون بين سورية وايران وتركيا والعراق مع تركيز على العمق الاستراتيجي بين دمشق وبغداد. ثالثاً، إعلان مجموعة من الأحزاب السياسية الأساسية في العراقية تشكيل «الائتلاف الوطني العراقي» برئاسة رئيس الوزراء الأسبق إبراهيم الجعفري وعضوية احمد الجلبي رئيس «المؤتمر الوطني» و«منظمة بدر» و «المجلس الإسلامي الأعلى» بمشاركة أحد قادته وهو نائب الرئيس عادل عبد المهدي، إضافة الى «التيار الصدري» بزعامة مقتدى الصدر وجناح حزب «الدعوة» برئاسة عبد الكريم العنزي، من دون جناح المالكي في «الدعوة» الذي وضع شروطاً من قبيل وجود ضمانات بترؤسه الحكومة المقبلة وتوسيع صلاحياته للانضمام الى الائتلاف الجديد. أعلنت بعد تفجيرات 19 آب سلسلة من المواقف الداخلية والخارجية. فالمالكي عزاها الى «التمحورات والاختلافات الداخلية» في حين أشار زيباري الى «تواطؤ» من قبل بعض أجهزة الأمن العراقية، متسائلاً عن أسباب تخفيف الإجراءات الأمنية حول الأبنية الحكومية. كما أشار مسؤولون آخرون الى دول إقليمية أخرى. أما على صعيد دمشق، فإن وزارة الخارجية السورية أصدرت بياناً «تدين في شدة التفجيرات الإرهابية». في غضون ذلك، تبنت «القاعدة في بلاد الرافدين» العملية. وتبين لاحقاً ان اثنين من منفذي التفجيرات كانا معتقلين في السجون العراقية. ثم بث التلفزيون الرسمي العراقي اعترافات ل «بعثي» سابق كان معتقلاً في سجن عراقي، يشير الى انه تلقى أوامر من القياديين «البعثيين» محمد يونس احمد وسطام فرحان. وبعد اجتماع الحكومة العراقية في 25 آب، أعلن الناطق باسم الحكومة علي الدباغ، الذي قرأ قبل أسبوع بيان «التعاون الاستراتيجي» في أمور بينها «محاربة الإرهاب»، اتهامات واستدعاء العراق سفيره في دمشق علاء حسين الجوادي والمطالبة بتسليم يونس احمد وفرحان. وردت سورية باستدعاء سفيرها نواف الفارس معتبرة ان السبب الحقيقي لتوجيه اتهام لها «خلافات داخلية وربما اجندات خارجية». وما يعزز الاعتقاد السوري ان هناك قراراً لدى حكومة المالكي بالتصعيد، الآتي: اولاً، عندما اتصل الدباغ وزيباري بالوزير المعلم لإبلاغه بقرار حكومة المالكي، طالب وزير الخارجية السوري إرسال الأدلة الحقيقية المتوافرة لديهم عن تفجيرات الأربعاء قبل توجيه اتهامات إعلامية والا ستعتبرها دمشق «أدلة مفبركة»، على اعتبار ان وجود النية السليمة والحرص على العلاقات، يفترض قيام وفد عراقي بالذهاب فوراً الى دمشق حاملاً الأدلة والوثائق وعرضها على الجانب السوري ثم اتخاذ القرار في الخطوة اللاحقة في حال عدم التعاون. وليس العكس. ثانياً، عندما أرسل الجانب العراقي مع وزير الخارجية التركي احمد داود اوغلو ما قال انه «أدلة» تبين، بحسب مصادر دمشق، انها عبارة عن أسماء لشخصيات عراقية بعضها مقيم في سورية وبعضها الآخر موجود في دول عربية أخرى، بل فيها أسماء قديمة كان مسؤولون أميركيون في زمن إدارة جورج بوش تحدثوا عنها قبل نحو أربع سنوات. كما ان الاعترافات اللاحقة لأحد السعوديين، تضمنت حديثه عن محمود كول اغاسي (أبو القعقاع) الذي قتل جرمياً قبل نحو ثلاث سنوات. ثالثاً، قام وزير الخارجية الإيراني منوشهر متقي ونظيره التركي بجهود لاحتواء الأزمة بين دمشق وبغداد. لكن حكومة المالكي واصلت التصعيد، بدلاً من إرسال وفد عراقي يحمل الوثائق الداعمة لموقفه خصوصاً ان الجانب السوري أعلن انه مستعد لتسهيل مهمة وفد كهذا كي يجول في أماكن يقول العراقيون انها معسكرات للتدريب. يضاف الى ذلك، ان موضوع التصعيد السياسي والاتهامات هو تفجيرات 19 آب 2009. رابعاً، ان نائب الرئيس عبد المهدي، اتخذ موقفاً مختلفاً يتضمن معارضة للتصعيد مع دمشق. إذ نفى علاقة «البعثيين» بتفجيرات الأربعاء، مشيراً إلى «القاعدة». وطالب ب «طرح الأمور بكل جدية وإصرار لكن بالطرق غير الإعلامية أو الهجومية» ذلك ان «مصلحة العراق وسورية ان يتجها الى الحلول السلمية». كما ان الرئيس جلال طالباني لم يساير في تصريحاته الرسمية موقف المالكي. الاعتقاد انها أزمة بين فريق عراقي وسورية، ما يرجح توقع عدم تحقيق المالكي مكاسب منها. فإذا كان يراهن على تسلم سياسيين «بعثيين» لتعزيز وضعه الداخلي او لمواجهة «الائتلاف الوطني»، فإن دمشق أعلنت انها لن تسلم أياً من القياديين «البعثيين» الذي يمارسون العمل السياسي الشرعي ضمن اكثر من مليون عراقي فيها، مثلما هي لم تسلمه الى نظام الرئيس السابق صدام حسين، عندما كان لاجئاً في أراضيها. وبحسب المعلومات المتوافرة، فإن بعض «البعثيين» المقيمين في سورية كان أبدى استعداداً للمشاركة في العملية السياسية الأمر الذي شجعه بعض المسؤولين العراقيين وعارضه بشدة المالكي، مقابل دعم سوري لمشاركة جميع الأطياف العراقية في عملية المصالحة على اعتبار ان هذا يعزز الانتماء العربي - الإسلامي للعراق واستقراره وأمنه. ما يبدو الى الآن ان حسابات المالكي الدولية لم تكن دقيقة. فالرئيس اوباما في حاجة الى سورية لتنفيذ خطته بالانسحاب من العراق في 2011 والحوار الثنائي مستمر لتحقيق سلام شامل في المنطقة وتحقيق استقرار العراق لأن في هذين الأمرين مصلحة لدمشق، وإن كانت هناك قوى داخل واشنطن معرقلة له. كما ان التصعيد العراقي لم يلق دعماً عربياً سياسياً وإعلامياً ولا دعماً في الائتلاف الحاكم في بغداد، خصوصاً وسط غياب الدليل القاطع عن علاقة عراقيين يقيمون في سورية بتفجيرات الأربعاء. استمرار التصعيد متوقع من رئيس الوزراء العراقي الى حين الانتخابات البرلمانية المقبلة بداية العام المقبل، لكن يعتقد انه سينعكس على «الدعوة» ذلك ان لسورية علاقة جيدة مع العشائر وتيارات سياسية مهمة في العراق ليست موافقة على خسارة العمق العربي. يتوقع ان يعيده زعيماً لفريق سياسي وأن يضعف من «الشرعية العربية» التي كان قد حظي بها نتيجة اقترابه من دمشق في السنتين الأخيرتين التي ظهرت نتائجها في انتخابات الإدارة المحلية بتعزيز الوجه الوطني للعراق. * صحافي من أسرة «الحياة».