الفقيه دبيّان بن محمد الدبيّان يمثل نموذجاً للفقهاء المستقلين والجادين، فهو من جهة ينأى بنفسه عن أية ارتباطات رسمية تؤثر في استقلاليته وآرائه الفقهية، ومن جهة ثانية يكاد يعيش في عزلة عمن حوله منكباً على البحوث والدراسات المتعمقة، مُشتغلاً بمشروع فقهي واسع بدأه بإصدار «موسوعة الطهارة» ثم تبعه بإصدار «الموسوعة المالية». ويأمل في استكمال بقية المشروع بإصدار موسوعات مماثلة عن «الصلاة» و«الصيام».. الصرامة المنهجية والتجويد المهني اللّذان يميزان مؤلفاته العلمية لفتا إليه أنظار المتخصصين في العلوم الشرعية، وجعلت من كتبه مراجع مُعتبرة، دفعت بوزارة الشؤون الإسلامية إلى تبني طباعة 2000 نسخة من موسوعته الأخيرة التي تحوي 20 جزءاً. في هذا الحوار يجيب الفقيه الدبيان على أسئلة عدة عن الصحوة والثورة والإخوان والخلاف الفقهي وغيرها. فإلى الحوار: تنتمي دراسةً وتعلماً ونشأةً إلى المدرسة السلفية التقليدية، غير أنك خرجت في بعض الأحيان عن هذه المدرسة بإعلانك مخالفتها في قضايا إشكالية – نسبة إلى رموز وجمهور تلك المدرسة -.. هل تعتقد بأنك الآن وبعد هذا السياق الزمني والمعرفي خرجت من عباءتها أم أنك لا تزال رهيناً لأدبياتها وتقاليدها وخطها العام؟ - لا أتفق معك بقولك: إن المتبِع للسلفية يكون رهيناً لأدبياتها وتقاليدها وخطها العام، لأن السلفية فضاء رحب، ومنهل عذب، فهي التي حررت العقول من تبعية التقليد، وهي التي صانت العقيدة من لوث المتكلمين، وانحرافات الغالين، وخرافات المتصوفين. ولا تكاد تجد نهضة للأمة قامت بعد عثرتها في تاريخها الطويل إلا وتجد أن العامل الأول كان برجوعها إلى هذا المنهج، سواء في مواجهة التتار أم في مواجهة الحملة الصليبية، وما زال الغرب يرى في السلفية مانعاً وحصناً يقف في وجه أطماعه الاستعمارية. وإذا اعتقدت بأنني خرجت عن السلفية لوجود خلاف فقهي، فلن يبقى سلفي على وجه الأرض، لا من المتقدمين ولا من المتأخرين، ويجب التفريق بين السلفية وممارسة بعض السلفيين، كالتفريق بين الإسلام وممارسة بعض الإسلاميين. الخطاب الديني هناك من يقول إن الخطاب الديني الإسلامي يحتاج إلى إصلاح في بنيته الفكرية وأحياناً يستخدمون مفردة «تجديد» للتعبير عن حاجة هذا الخطاب إلى مواكبة العصر.. أين تقف من هذه الدعوة؟ - من يطالب بإصلاح الخطاب الديني وتجديده، ينظر في بواعثه قبل الحكم عليه، فإن كان الباعث على هذا هو محاولة مخاطبة الآخر بلغة يفهمها، حتى نستطيع نشر هذا الدين بين الأمم الأخرى فإن هذا مطلوب ولا شك. وقد استطاع أعداء هذه الدعوة تقديم خطاب إعلامي يفهمه الغرب في التنفير من الإسلام، بتشويه موقف الإسلام من المرأة، ومن الحريات، ومن الإرهاب ونحو ذلك. وإن كان الباعث على إصلاح الخطاب وتجديده هو التنازل عن الثوابت ليقبلك الآخر، فهذا لا يجوز الإقدام عليه. ويكفي أن تعرف أن مسلسل التنازل لن يقف عند حد حتى تتخلى عن جوهر دينك، «ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم». الحديث عن الصحوة في المملكة يثير التساؤلات حول التقويم الموضوعي لتلك المرحلة.. بصفتك أحد الفاعلين في حراكها والمنظرين لأفكارها – وإن على مستوى محلي - كيف تقوّم تلك المرحلة؟ وهل تعتقد بأن كلمة «الصحوة» هي الأنسب لوصفها لجهة التأثير الذي أحدثتْه في الوعي الديني المحلي؟ - لست فاعلًا في حراك هذه الصحوة، ولا مُنظراً لها، فأنا مجالي هو الفقه وليس الفكر، ولكل رجاله. أما قراءتي لهذا المشروع فهو مجرد رأي يحتمل الخطأ والصواب، فأقول: لقد بلغت الأمة الحضيض في كل مجالات الحياة السياسية والعلمية والأخلاقية. وجربت الأمة الحكم العسكري، والحكم القومي فكانت الأنظمة العروبية أسوأ الأنظمة التي عرفها العرب استبداداً وفساداً، ونتيجة لذلك حدثت هذه اليقظة التي اصطلح على تسميتها «الصحوة»، وكانت تحمل مشروعاً متكاملاً للنهضة في مجالات الحياة المختلفة. ففي الاقتصاد حقق المشروع الإسلامي نجاحات لا نظير لها، وفي مجال الإعلام أصبح للإعلام الإسلامي دور لا يمكن تجاهله، وقد بدأ بصورة متواضعة على شكل شريط كاسيت، ثم تطور حتى وصل إلى القنوات الفضائية المختلفة، وفي وسائل التواصل الاجتماعي ما زالت الشخصيات الإسلامية في مقدم المؤثرين اجتماعياً، وأصبح الإعلام الإسلامي مزاحماً للإعلام الليبرالي. ولم يقتصر الأمر على الإعلام والاقتصاد مع أهميتهما، فقد وجد الأدب الإسلامي، والكتاب الإسلامي، ومعارض الكتاب قائمة عليه، وفي مجال السياسة تعتبر الجماعات الإسلامية هي المعارضة الحقيقية التي تمثل تهديداً وبديلاً عن الأنظمة، ولها حضورها في الشارع. وحتى المشروع الجهادي الذي كان فيه إخفاقات كثيرة، إلا أننا لا يمكن أن ننسى أن هذا المشروع استطاع أن يخرج الاتحاد السوفياتي من أفغانستان. كما استطاع هذا المشروع إفشال المشروع الأميركي في احتلال العراق في الوقت الذي، ما زالت أميركا لم تخرج من اليابان، وأحدث الجهاد في وعي صناع القرار الغربي رادعاً عن التفكير في احتلال أي بلد إسلامي. واستطاع هذا الجهاد أن يحيد التفوق العسكري الغربي، وكنت تلمس هذا الردع ظاهراً في الحذر من التدخل البري في الثورة الليبية خوفاً من تكرار تجربة العراق. وكون الجهاد في العراق صارت فيه انحرافات وتوجه إلى معركة طائفية فإن ذلك لم يكن السبب من الجهاديين ابتداءً، فكانت معركتهم في الابتداء مع المحتل. ولكن حين شعر الغرب أنه يخسر معركته في العراق تعاون الغرب مع إيران في إذكاء الصراع الطائفي، وكان هناك اختراقات وأعمال استخباراتية يدركها المتابع، وقام المحتل بالتعاون مع إيران بتفجير المرقدين ليحرف الجهاد من معركة تحرير مقدس إلى حرب قذرة قطف ثمرتها الشيعة، مكافأةً لهم على وقوفهم مع المستعمر، وهمّش فيها أهل السنة لمقاومتهم الاحتلال. وكنت أتمنى لو أن بعض الحكومات الإسلامية التقت مع قيادات الجهاديين واستوعبت تلك القيادات ووفّرت لها الحاضن المناسب ودربت تلك الكوادر لتكون قوة للأمة، بدلًا من الاستنزاف معها في معركة يكون وقودها خيرة شباب الأمة والرابح هو العدو، وربما أسهم هذا الفعل في قطع دابر الغلو الذي أخذ ينتشر بين شباب الجهاد. ويظل المشروع الإسلامي يواجه هيمنة السياسيين، كما يواجه أعداء كثيرين داخليين وخارجيين يحاولون إفشال هذا المشروع من داخله. مرحلة الصحوة كيف تنظر إلى القراءة التاريخية لمرحلة الصحوة في المملكة التي كتبها الباحث الفرنسي ستيفان لاكرو في كتابه «زمن الصحوة..»؟ - لم أقرأ كتاب «زمن الصحوة»، ولا أفكر أن أقرأ في غير تخصصي، وإذا كنت لا أجد وقتاً لأتابع فيه كل جديد في مجال تخصصي حتى أصبحت أشتري الكتب الإسلامية وتتراكم من دون أن أجد وقتًا للاطلاع عليها، فكيف أفكر في متابعة الكتب الأخرى! بعد انحسار فترة الصحوة الإسلامية تفككت بنيتها الفكرية وأفرزت خطابات عدة، بعضها متعارض وأحياناً متصارع.. كيف تقرأ واقع الانتماءات الفكرية الإسلامية ومستقبلها في العالم العربي ولاسيما في المملكة؟ - لا أتفق معك على أن الصحوة في انحسار، وأما كونها أفرزت خطابات عدة فكرية متعارضة أحياناً ومتصارعة أحياناً أخرى فهذا له أسبابه الموضوعية. فإن المصائب دائماً تكون لها إفرازات، وما مرت به الأمة الإسلامية بعد تفككك الاتحاد السوفياتي، وهيمنة القطب الواحد، واحتلال العراق وأفغانستان، والحرب الكونية على ما يسمى بالإرهاب هذه الأحداث العظيمة التي تعرضت لها الأمة تعتبر الزلزال، وبعد أن جُرّ بعض الجهاديين إلى توجيه العنف إلى الداخل، وكان هذا انحرافاً خطيراً. كل هذه الأحداث العظيمة أوجدت انقساماً ولا بد، ولو مر مثل هذا بأي مشروع لكانت النتيجة أكبر من ذلك، وصار الفرز الكوني إما أن تقف معي أو تكون محسوباً في صف من يقف ضدي، وفتحت المعتقلات ابتداءً من «غوانتانامو» إلى المعتقلات في كثير من البلاد الإسلامية. واستُغل مثل هذا المناخ من السياسيين لتصفية الخصوم، ووأد الحريات والتضييق عليها، ومع ذلك فإن هذه الأحداث هي أمر عارض، وقد بدأت بالانحسار، وسيتجاوزها العمل الإسلامي خلف ظهره، وسيستفيد الإسلاميون من أخطائهم، ويصحح العمل الإسلامي نفسه بنفسه. وقد ظهر ذلك جلياً في الجهاد في سورية، ولا يمكن مقارنته بالجهاد في العراق، ومع ذلك فإني في قلق على هذا الجهاد من أن ينحرف أو يخترق، فيصيبه ما أصاب غيره. وضعت الثورات العربية الأحزاب السياسية الإسلامية في موقع السلطة.. كيف ترى تعامل هذه الأحزاب مع مقتضيات العمل السياسي خلال الفترة المنقضية؟ وماذا تتنبأ لهذه التجربة؟ - ليس من المنتظر في البلاد التي وقعت فيها ثورات أن تستقر الأوضاع فيها خلال فترة قصيرة، فلا بد من الصبر عليها، ولست راضياً عن الأداء السياسي في تلك البلاد، سواء أكانت إسلامية أم مدنية، وكل طرف يحاول إقصاء الآخر. وقد كشفت ممارستهم السياسية عن قلة خبرة من الطرفين، ولم يكن هناك تعاون على تجاوز الفترة الانتقالية، فالمعارضة تريد أن تثبت للناس أن الإسلاميين ليسوا جديرين بقيادة البلد وتريد إسقاطهم. وقد أتيحت للمعارضة أكثر من فرصة للحوار، وكان مشروعهم في كل مرة الرفض، والرفض عمل سلبي لا يُنتج سياسة، و«الإخوان» لهم ممارسات إقصائية. والمجلس العسكري كان جزءاً من النظام السابق، وحين أُبعد عن النشاط السياسي أخذ بعض القضاة بنفسه في ممارسة الدور السياسي الذي كان يمارسه المجلس العسكري، وإن بصبغة قانونية. وأصبحت المعارضة والإعلام الليبرالي المدعوم خارجياً يوفران غطاء سياسياً لما يسمى بالفلول أو بالدولة العميقة، وأصبح المجال متاحاً للتدخل الخارجي. ولن تستقر الأحوال حتى يدرك الطرفان أنه لا يمكن لأحدهما أن يُسقط الآخر، وأنه لا مناصَ من التعاون بين الطرفين حتى تتجاوز البلد المرحلة الانتقالية. هل يمكن أن تكون الثورة الاتصالية وما أحدثته من انفتاح معلوماتي مؤذنة بانحسار تأثير الفقيه في الفضاء الاجتماعي واقتصار دوره على حلق التعليم الشرعي في المساجد؟ - بالعكس، فالثورة الاتصالية خدمت الفقيه وخرجت به من التأثير المحلي إلى التأثير الإقليمي والإسلامي، وعندما زرت مصر قبل فترة وجدت أن كتبي واختياراتي قد قدمتني إلى جمهور السلفيين هناك - ولله الحمد - على رغم أنني لم أنفتح للعمل الإعلامي. الدين والسياسة سجل التاريخ الاسلامي أشكالاً متعددة من تحالف الفقيه «الديني» مع «السياسي»، وأسهم هذا التحالف في تكريس أشكال مختلفة من الاستبداد والإقصاء.. هل لا يزال الفقيه يمارس هذا الدور؟ - السياسة لا تقوم على الأخلاق والسياسي يوظف كل أوراق القوة في تحقيق مآربه، والدين له تأثيره في حياة الإنسان أياً كان ذلك الإنسان، مسلماً كان أم غير مسلم. لهذا رأينا بوش الأب وبوش الابن في حرب تحرير الكويت وحرب احتلال العراق يستخدم الدين في تحقيق أغراض استعمارية، فكان بوش الأب يصلي مع أحد القساوسة، لكي ينتصر في معركته ضد ما يسميه بالشر. وكان بوش الابن يزعم أن الله كلفه، لكي يقوم بتحرير الإنسان العراقي، وإذا كان هذا يحصل في بلاد المؤسسات، فما بالك باستغلال مثل هذا من البلاد التي يحكم فيها رجل واحد، وتكون في يده جميع السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية. وبعض رجال الفقه في بعض البلاد الإسلامية يمارس دوراً أشبه بالدور الكنسي في القرون الوسطى، فيحل ويحرم تبعاً لإرادة الحكام. وقد سمعنا في سورية، وهي بلاد تصرح بأنها علمانية، كيف صدرت الفتوى بالجهاد المقدس من أجل ضرب الشعب السوري، وهذه من أغرب الفتاوى، بل إن سلوك بعض الساسة ربما كان أكثر ورعاً من بعض المفتين الذين يعطون الفتوى في إباحة دم المعارضين باسم الإسلام إرضاء للحاكم. قال تعالى:((يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله، وضرب الله مثلاً لمثل هذا العالم بالكلب، ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث)) وضربه بالحمار في قوله تعالى: ((كمثل الحمار يحمل أسفاراً)). يمثل العقل والتدبر سمة من سمات التأصيل الإسلامي، ويحض القرآن الكريم على التدبر وإعمال العقل، ومع ذلك يغلب النقل على المدارس الفقهية ويتراجع دور العقل في الاجتهاد والاستنباط.. ما تعليقك؟ - العقل تابع للنقل، وليس العكس، فالعقل عند أهل السنة والجماعة وظيفته تدبر النقل، وفهمه واستنباط الأحكام منه، ولا يتقدم على النقل. ولا يوجد نقل صحيح يعارض عقلاً صريحاً، وإذا تعارضَا في الظاهر فالمتهم العقل؛ لأن العقل قاصر عن إدراك جميع أسرار التشريع. ولهذا لما لم يرضَ بعض الصحابة بصلح الحديبية بادي الرأي، وكان فتحاً مبيناً على المسلمين. ولقد قال سهل بن حنيف: اتهموا الرأي فلقد رأيتني يوم أبي جندل (الحديبية) ولو أستطيع أن أرد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره لرددت. الصراعات الطائفية كشفت الصراعات في الوطن العربي - بدءاً من الحالة العراقية - المخبوء في المسألة الطائفية، وانزاح المشهد العربي عن انتماءات طائفية ومذهبية ضيقة، في المقابل تراجعت أو خفتت الدعوات المنادية للتقارب والتعايش المذهبي.. ما الدور التاريخي الذي يتحمله الفقيه في هذا الموضوع؟ وما الدور المستقبلي الذي يمكن أن ينهض به تجاه فكرة التقارب بين الطائفتين السنية والشيعية؟ - التقارب مع الشيعة إن كان المقصود به التوفيق بين المذهبين فهذا غير ممكن، بل ويستحيل. كما أنني لست مع الاقتتال والشحن الطائفي، وبينهما ما يسمى بالتعايش إلا أن التعايش صيغة مفاعلة تقوم بين طرفين بمعنى أن أدعهم يعيشون بسلام لهم حقوقهم، ويدعوننا نعيش بسلام، سواء كنا في بلد واحد أم كنا في بلاد متجاورة. والتعايش مع الشيعة ممكن ومطلوب، لكن لا يمكن أن يقوم به طرف واحد، لا بد من أن يقوم بذلك الطرفان، وهي مسؤولية العلماء من الجهتين. ولقد كان زعيم من ينادي بالتعايش هو الشيخ يوسف القرضاوي قد اعترف بأن الشيعة لا يقومون بذلك، وقد تخلى عن هذه الدعوة، وصرح بأن الشيعة قد استغلوا هذه الدعوة لنشر مذهبهم بين أهل السنة، سواء في أفريقيا أم في سورية أو في غيرهما من بلاد أهل السّنة، بينما لا يوجد في طهران جامع واحد للسنة، ولا يوجد في البرلمان الإيراني من يمثل السّنة. في الوقت الذي تجد فيه اليهود وسائر الطوائف يمثلون فيه على قلتهم، وكتب الشيعة طافحة بالدعوة إلى قتال أهل السنة، وأنهم نواصب، وأنهم أعداء لآل البيت، حتى إنهم يحملون أهل السّنة حوادث حدثت في التاريخ الغابر، ويطالبون بالدعوة إلى الثأر.. هل يمكن في مثل هذا الجو طرح فكرة التعايش؟ هناك من يقول إن الكثير من رموز الفقه والإرشاد الديني في المملكة لا يملكون الجرأة في الإعلان عن آرائهم الفقهية المخالفة للمذهب الفقهي السائد خشية سلطة الجمهور.. إلى أي مدى تتفق مع هذا الرأي؟ - لماذا تخص هذا السلوك بالمملكة بل هو سلوك إنساني، قال علي بن أبي طالب حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله، بل قال عليه الصلاة والسلام لعائشة: لولا أن قومك حديث عهد بكفر لبنيت الكعبة على قواعد إسماعيل. ولما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم في قتل المنافقين قالوا: أتريدون أن يقال بأن محمداً يقتل أصحابه. اشترت وزارة الشؤون الإسلامية حقوق نشر وطباعة وتوزيع كتابك الأخير «الموسوعة المالية».. ألا تؤثر هذه العلاقة التعاقدية في استقلاليتك العلمية وتضع عليك قيوداً في الرأي الفقهي يصعب عليك تجاوزها؟ - لم تشتر الوزارة أية حقوق في كتابي المعاملات المالية، وهي قد اشترت ألفي نسخة وقامت بطباعتها وتوزيعها، وانتهى حقها عند ذلك، ولم يتدخل أحد في اختياراتي الفقهية في الكتاب. سلمان العودة والتغيرات كنت مُقرباً من الدكتور سلمان العودة في مرحلة التسعينات الميلادية وما صاحبها من حراك صحوي.. كيف تقرأ التغيّر الذي طرأ عليه لجهة أطروحاته الفقهية من ناحية، ولجهة منهجيته في الدعوة وملامسة الشأن السياسي من ناحية أخرى؟ - ما زلت مقرباً من الدكتور سلمان العودة وإن لم يكن بيننا نشاط علمي مشترك، والتغيير الذي طرأ عليه منه ما هو طبيعي بسبب زيادة المعرفة والتجربة والتقدم في العمر وطلب الكمال، ومنه ما هو معذور فيه، ومنه ما نختلف معه، ولكل اجتهاده. ومشكلة الرمز أنه دائماً تحت المجهر، وخصومه كثيرون والمتكلم في السياسة في البلاد العربية، ولا سيما البلاد التي لم تتعود على تقبل التعددية في الآراء والاجتهادات المختلفة. فمثله مثل من يدخل أرضاً قد زرعت بالألغام من دون أن يكون معه خريطة، وإرضاء الناس غاية لا تدرك، فإذا عرف الإنسان هدفه وتحرّى الصواب فليشتغل بما ينفعه ولا يلتفت إلى ما يقوله الناس، وليكن رضاء الله هو غايته. أمضيت بضع سنين في السجن في مطلع التسعينات الميلادية على خلفية مشاركتك وانتمائك إلى مايسمى الخطاب السياسي الصحوي.. بماذا خرجت من تلك التجربة؟ -كنت بالثلاثينات من عمري، وكان يغلب عليّ ما يغلب على الشباب من الحماسة، وكنت أتصور أن توافر إرادة الإصلاح كافية في قيام مثل هذا المشروع، وقد أدركت بعدُ أن الوضع السياسي متشابك يتداخل فيه المحلي بالخارجي. ويكفي أن ترى هذا عندما حصن الرئيس مرسي بعض القرارات حصل في مصر زلزال كاد يطير بكرسي الرئاسة، إن أمتنا تعيش تخلفاً حضارياً، وخصومها كالأخطبوط متغلغل في مفاصل حياتها. وإن الرجل السياسي قد لا يملك الإرادة بتبني مشروع نهضوي من دون أن يمر هذا المشروع بتحديات خارجية، ومتى ما بلغت الأمة حصانتها كان بالإمكان أن تكون تصرفات الساسة صدى لرغبات الأمة في السير بمشروعها. وما زال بيننا وبين هذه المرحلة عقود، وما نحن إلا مرحلة في تاريخ طويل نسهم بشكل أو بآخر في هذا البناء، ولا يمكن لنا اختصار المراحل، وما هذه الثورات في بعض البلاد العربية إلا خطوة في تحقيق الاستقلال. ماذا عن تعاملك مع الأقنية الاتصالية الحديثة «فيسبوك، تويتر»؟ وكيف ترى تأثيرها في تشكيل الوعي الحقوقي بين أفراد المجتمع؟ - تعاملي محدود جداً، إلا أنني أتابع فيه بحذر أحداث الثورة السورية في أوقات مخصوصة حتى لا يسرق مني أغلى ما أملك وهو الوقت؛ لأن وسائل التواصل الاجتماعي محرقة للوقت، وفائدتها بالنسبة إليّ محدودة. المرأة والموروث تحتل المرأة موقع الصدارة في الخطاب الديني الحديث ( فقهاً وإرشادا وفكراً ) ، وتتمحور حولها معظم اهتمامات هذا الخطاب..إلى أي مدى خدم هذا الخطاب واقع المرأة وحقوقها ؟ وما مدى تقاطع أطروحات هذا الخطاب مع الموروث الثقافي ؟ و إلى أي مدى يعبر هذا الخطاب بكافة تلاوينه عن مكانة المرأة في الإسلام ؟ - تعتبر قضايا المرأة من أخطر القضايا التي يجب على المشروع الإسلامي مواجهتها وحلها، والمرأة تشكل أحد ركني الأسرة، والخلاف في أحد الركنين سوف يؤدي إلى دمار شامل للأسرة. فهناك أمور قطع فيه النزاع من جهة الشرع، وإن انتقدها من انتقدها فهذا لا نخجل منه، ولا نقبل فيه نقدًا من أحد ومن طعن فيها فإن ذلك يعتبر قدحًا في دينه، كالميراث، والقوامة والتعدد. والخطاب الإسلامي قد يكون مقصرًا في هذا القسم من جهتين أحدهما: بيان الحكمة الشرعية في مثل هذا التشريع، والثاني: كشف الممارسات الاجتماعية الخاطئة وتعريتها والبراءة منها، وعدم تحميلها للحكم الشرعي. خذ مثلًا: التعدد وهو عقد رضائي لا تكره المرأة عليه ابتداء، كما لا تكره المرأة على الاستمرار مع الزوج إذا رغب في التعدد. وفي الوقت الذي تجد في الغرب الزوج يتخذ الأخدان ولا يجرم بمثل ذلك، بينما يجرم التعدد المحكوم بالحقوق والواجبات، هذا الحق للرجل لا يعني أبدًا أن يستغل هذا الحق في ظلم المرأة وعدم القيام بشرط العدل. القسم الثاني: أمور محل خلاف فقهي منذ الصدر الأول إلى يومنا، وذلك مثل كشف الوجه. وهذا الخلاف الفقهي هو جانب عملي يجب احترام كل بلد وما يختاره من هذا الخلاف. والغالب أن المجتمع يختار من هذا الخلاف ما يناسبه ويلائمه، فلا يصح استغلال هذا الخلاف الفقهي لحمل المجتمع على تغيير خياراته ما دام أن المجتمع قد اختار قولًا من هذه الأقوال السائغة شرعًا. وأكثر من يستغل هذا الخلاف من له مآرب أخرى يريدها من المرأة، قال تعالى ((والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلًا عظيمًا)). القسم الثالث من الممارسات على المرأة ممارسات اجتماعية لا يسندها شرع ولا عقل، مثل عضل المرأة عن الزواج، والتسلط على مالها، أو إكراهها في الزواج بغير من ترغب فيه، إلى غير ذلك من الممارسات التي لا تحسب على الإسلاميين وإنما هي ممارسات اجتماعية. وهناك قصور في الخطاب الإسلامي في الحديث عنها نتيجة استغلال الطرف الآخر لهذه الأخطاء وتحميلها الإسلام وإن كانت معالجتها لا تتوقف على خطاب يقال هناك أو هناك وأحمل المسؤولية كاملة للجهات التشريعية في البلاد الإسلامية والتي يجب عليها القيام بحفظ حقوق المرأة المدنية من العدوان.