كيف التعامل مع خبر «الكيماوي» على غوطتي الشام، ومع صور القتل الجماعي بدم بارد؟ سيكون من غير اللائق الاسترسال في وصف تلك المشاهد، لمن يقوى أصلاً على النظر إليها. وأما «الخناقة» والمحاجّات والمهاترات عمّن ارتكب المقتلة، فأبشع. وهي ليست مصنوعة لتغيير القناعات العامة، بل لتعزيز خطوط كل معسكر. فمن يظن انه النظام، قام بها بغرض تحدي لجنة التحقيق الدولية التي وصلت الى دمشق للتو، والكشف عن عجزها بطريقة «لايف» أو مباشر، محق. ومن يرى أن ذلك غير معقول لأنه انتحار، محق أيضاً. بالمقابل، ارتكبت المجموعات المسلحة ما يكفي من الموبقات لوضعها في دائرة الشبهة... صحيح أنه لا خيار بين القتلة، لكن هذا الموقف المتعالي لا يكفي. وعلى أية حال، فالقانون الدولي والعرف يضعان السلطة القائمة في موضع المسؤولية، وهي من عليه أن يثبت براءته لو كان ذلك وارداً، وهي من يختزن كل معلومة عن تفاصيل المجتمع السوري، ويجيد التغلغل في ثنايا نسيجه كما لا يستطيع أحد. ولأننا أمام كارثة وطنية جلل، فعلى السلطة تقديم الوقائع والمعطيات، لو كانت الجريمة الكبرى ليست من صنعها، وعليها، حينذاك، إبداء اكتراث أكبر، وحرقة، بينما تكتفي بياناتها ومداخلات الناطقين باسمها بردود عادية، تافهة، باردة وخشبية. وبعد تسجيل فظاعة الجريمة، وجنونها وعبثيتها (وهما مترابطان)، فما يطغى هو الصفة «البرّانية» لمرتكبها. فلا يمكن لمن يشعر بأنه جزء من هؤلاء الناس أن يقدم على عمل كهذا. ولا يمكن لمن أقدم على عمل كهذا أن يأمل بأن يكون يوماً جزءاً من هؤلاء الناس. هذه الجريمة، بسبب حجمها وخصائصها، تكرس قطيعة. وهو استنتاج فظيع حين لا يتعلق الأمر بقوة احتلال ولا بعدو خارجي: غرنيكا. إبادات الاحتلال الفرنسي في الجزائر والاحتلال الإنكليزي في كينيا. نابالم الأميركيين في فيتنام... وحتى ارتكابات السلطة الروسية بحق الشيشان تبقى في حيز المسلك الامبراطوري الهادف لإخضاع بلاد هي «أخرى» بشكل من الأشكال... وأما السوري، أياً يكن، الذي يرى في سكان أي منطقة من سورية أرواحاً «الله لا يردها»، أعداء يكرههم، أو فرصة سانحة لإثبات كذا وكيت في سياق الصراع السياسي، فهو عدا تغوّله، يضع نفسه خارج أي ترتيب يمكن أن يقوم في يوم من الأيام، مهما طال الزمن. قد يتمكن الأسد ونظامه من الاستمرار طويلاً في خوض «الحرب»: نتيجة قوة نيرانهم، واستعدادهم اللامتناهي للبطش، ونتيجة صدفة تاريخية، أو «حظ قوي» يجعلهم في هذه اللحظة جزءاً من معادلة صراع إقليمي ودولي مستعر، ونتيجة وقوع الحدث السوري أثناء تحوّل في الاستراتيجيات الدولية بعد الكوارث التي تسببت بها نظريات «نهاية التاريخ» البائسة، والخرافات التي سوّقها المحافظون الجدد، وانحطاطهم بالسياسة في الولاياتالمتحدة إلى ما دون الدولة (وهو ليس تفصيلاً في الدولة العظمى الأولى) والفشل المدوي لمغامرات احتلال أفغانستان والعراق، والسياسات الخرقاء والمتعالية التي أدت إلى تأجيج الإرهاب، وما يوفره كحجج للتدابير الاستثنائية (لو كانت ثمة حاجة لحجج) ولإشاعة الخوف. لكنهم لن يتمكنوا أبداً من حكم سورية بعد الآن. ولن تحكمها جبهة النصرة وأخواتها، بدليل فشل الإخوان المسلمين، الأكثر رقياً وحداثة، في حكم مصر، وما يظهر من كاريكاتوريتهم في تونس والمغرب. وجبهة النصرة والقاعدة وأشباههما، يمكنهم، هم الآخرون، خوض الحرب لسنوات (أنظر أفغانستان). وأما تسجيل مشروع مجتمعي قابل للحياة، فأمر يتجاوزهم. ولعل هذا الذي يجري، على فظاعته والثمن المهول الذي يدفعه الناس فردياً، والمجتمعات، ينهي تلك القوى الطائفية، إذاً الجزئية والقاصرة والمتوحشة، ويفتح المجال أمام تبلور سواها ممن حالت عقود من الديكتاتورية دونه. لكن ذلك ليس ميكانيكياً، وهو يتطلب التفكير والعمل، بما يخرج عن شروط الموقف السائد ومستنقعه. وتستدعي المجزرة أن يبادَر إلى إجراء تحقيق دولي نزيه. ذلك مطلب مشروع وملح، يسمو فوق اعتبارات من يناهض التدخل الدولي ويشكك بدوافعه في كل حين، ويدرك انحيازات الهيئات الدولية المسبقة، ويقر بالصعوبات العملية والتقنية التي تحول دون إجراء مثل ذلك التحقيق أو دون تمكنه من نتائج. وإلاّ ننتكس إلى ما قبل هيئة الأممالمتحدة، كفكرة نشأت لتضع حدوداً للجنون البشري الذي تمظهر حينها بالنازية، ولتجاوز عجز عصبة الأمم التي لم تتمكن من الحيلولة دون ذلك الجنون. لا يمكن أن نستدعي مثل هذا التدخل بوجه انتهاكات إسرائيل مثلاً، ونعتد به، ثم نمر على مجزرة الغوطتين وكأنها حدث من حوادث الحرب الدائرة، بكل بشاعاتها. هنا تقوم نقطة فصل. فمهما كان العجز كبيراً، ومتعدد الأشكال والمستويات، فنقطة الفصل تكرس تاريخاً: 19 آب (أغسطس). اليوم الذي يليه ليس كالذي سبقه. التمكن من ترتيب نتائج على 19 آب السوري لا ينهض فحسب كضرورة ل «تعويض» تلك الحيوات المهدورة بلمح بصر، مئات أو آلاف الأطفال، ممن قُصفت أعمارهم قَبل أن يعوا الدنيا، فقراء لم يتمكنوا من الهرب والنجاة لضيق الحال، أو تجنباً للبهدلة، بل الاستباحة، التي يختبرها كل يوم أقرانهم في بلدان اللجوء، يتعرضون لانتهاك آدميتهم على كل المستويات، رجالاً ونساء أذلاء، وفتيات مغتصبات تحت شتى المسميات، وأطفالاً جوعى. عار على من يرى ولا يهمه. وعار على من لا يرى ولا يريد أن يرى، معمي البصيرة، مأخوذاً بمفردات الصراع. وحشية وحدهم البشر يتمكنون من تسجيلها. التمكن من ترتيب نتائج على 19 آب هو ضرورة لمنع الانتكاس نحو اللاجدوى والاستسلام لليأس والتخلي عن المعنى الأساس للثورات التي عمت المنطقة: إعلان الناس لرغبتهم ونيتهم التحكم بمصائرهم. امتلاك إرادات. انتصار الثورة المضادة لا يتكرس فحسب ببقاء تلك السلطات العفنة، بفضل قوة النار. أو عودتها بنسب وأشكال مختلفة، بفضل إجادة المناورات. أو دفع الناس للترحم عليها والتمسك بها، اتقاء لشر أعظم يتهددهم، وانحيازاً لمفهوم الأمن والأمان (الحد الأدنى من العيش البشري) مقابل الحلم بالأفضل (وهو الجموح الذي لم يكف البشر عن التعبير عنه منذ سبارتاكوس وثورة العبيد الأولى). انتصار الثورة المضادة يتحقق عند تكريس العجز، والقبول به في وجه ما يجري.