لم يفاجأ محبو وأصدقاء المخرج المصري الكبير توفيق صالح بالأخبار التي اتت من القاهرة، قبل أيام، تنبئ بموته، أو بالأحرى كما كان من شأنه هو ان يقول: تعلن نهاية الآلام التي كان يسببها له المرض منذ سنوات... وكذلك نهاية أزمنة البؤس والجحود التي عايشها وكانت، بقدر ما تؤلمه، تثير سخريته ولكن من دون مرارة. فتوفيق صالح كان واحداً من كبار الساخرين، تماماً كما كان واحداً من كبار محبي الأدب وفن السينما، حتى وإن كان المتن السينمائي الذي أنجزه طوال سنوات حياته لا يعدّ على اكثر من أصابع اليدين. ونعرف جميعنا ان السبب الرئيس الكامن خلف قلة عدد أفلامه، كان عدم رغبته في القيام بأية تنازلات لأية جهة تريد ان تنتج له فيلماً مكبلة إياه بألف قيد وقيد. ولن نخفي هنا ان توفيق صالح وجد نفسه مضطراً الى خوض مثل تلك التجربة «المقيتة» - كما وصفها بنفسه - مرة واحدة في حياته، وذلك بالتحديد حين حقق آخر أفلامه «الأيام الطويلة» مضطراً وهو منفيّ خارج مصر وقد تقطعت به السبل.فالفيلم كان عن حياة لصدام حسين رواها هذا بنفسه لعدد من الكتاب دوّنوها. ويومها، إذ كان صالح قد خرج من تلك التجربة السورية المريرة التي كانها تصوير وانتاج فيلمه الكبير «المخدوعون» عن قصة «رجال في الشمس» للكاتب الشهيد غسان كنفاني، وفوتح بأمر تحويل «الأيام الطويلة» فيلماً وافق وقد استبد به فضول كبير لمعرفة كيف سيكون مشهد ديكتاتور عربي وهو يتعامل مع فريق يريد تصوير فيلم روائي عن «حياته». ولئن كان من الأمور الممتعة وذات الدلالة قراءة النصوص التي كتبها توفيق صالح لاحقاً عن تلك التجربة، فإن ما من شأنه ان يبدو أكثر متعة، كان تلك الجلسات الطويلة الصاخبة التي كانت تضمنا وتوفيق وأصدقاء آخرين في القاهرة او غيرها من المدن العربية ولا سيما مراكش في المغرب التي كان يحبها كثيراً. فهو في تلك الجلسات، كان لا يتوقف عن الحديث المرح الصاخب الساخر عن مرحلة تصويره الفيلم في العراق، ولا سيما عن لقاءاته مع صدام... والحقيقة ان رواياته لتلك اللقاءات كانت من الطرافة والعمق - في تفسيرها بخاصة شخصية الديكتاتور وفهم هذا الأخير للفن والسينما ودور المبدع في المجتمع!! - الى درجة كانت دائماً ما تدفعنا الى مطالبة ذلك «الحكواتي» المبدع بأن يحوّل حكاية تلك اللقاءات في حد ذاتها الى فيلم سينمائي وأكثر، وهو حين كان يسمع رأينا الملحّ في هذا، كان يضحك ملء فمه ويقول: «إعملوها انتو... فأنا اكتفيت من الراجل وأكثر، ولا أريد لأي شيء ان يعيدني اليه والى ذكره!». لقد كان واضحاً ان ذلك الفيلم الأخير خلّف لدى توفيق صالح مرارة مزدوجة. ولكن لم لا نقول هنا، ان كل فيلم من أفلام هذا الرجل انما كان ينتهي بمرارة؟ فهو، بعد كل شيء، لم يكن من اولئك الذين يرضون عن اي شيء بسهولة... ومع هذا، كان، ونحن في رفقته لمشاهدة افلام كثيرة، عربية غالباً وفي الكثير من المهرجانات ولا سيما في نيويورك التي تجولنا في أزقتها وصالاتها معاً طوال ايام، او في القاهرة، حيث كنا غالباً ما نصحبه الى مشاهدة الأفلام ولكن كذلك الى حضور انواع مختلفة من الندوات الفكرية والفلسفية ناهيك بالسينمائية - وكان آخرها ندوة في القاهرة قبل سنتين ونيّف، ألقى فيها المفكر المصري المعروف الدكتور حسن حنفي محاضرة قيمة حول «السينما الفلسفية لدى توفيق صالح» -، كان لا يتوقف عن إبداء دهشته وفرحه بكل جديد... وهو في هذا السياق كان واحداً من اوائل الرفاق المصريين الذين يخبروننا عن مخرجين جدد برزوا من دون علمنا معلناً انهم «سيزينون مستقبل السينما المصرية»، وكذلك كان هو اول من يخبرنا عن روايات جديدة تظهر في القاهرة (كاتب هذه السطور يدين له بالتعرف الى الراحل خيري شلبي ورواياته، وبالنسخة الأولى من رواية «عمارة يعقوبيان، لعلاء الأسواني... بين ابداعات مصرية أخرى). قلة من أفلام رائعة وإذ نعود هنا الى توفيق صالح السينمائي، لا بد من ان نؤكد على الفور انه كان بالتأكيد واحداً من سبعة أو ثمانية مخرجين مصريين رفعوا السينما المصرية الى مستويات ما كان لها أن تبلغها لولاهم، كما كان بالتأكيد كذلك واحداً من عشرين أو ثلاثين سينمائياً عربياً عرفوا كيف يجعلون السينما جزءاً اساسياً من التراث الإبداعي العربي الحقيقي. وحتى إن اقتصر كلامنا على انتماء هذا المبدع الكبير الراحل الى وطنه مصر، فسنجد ان توفيق صالح، الى جانب مبدعين مثل كمال سليم وصلاح أبو سيف وبركات وصولاً الى يوسف شاهين وكمال الشيخ، وخصوصاً شادي عبدالسلام ولكن في اتجاه آخر تماماً لهذا الأخير -، كان ينتمي الى ذلك السياق الذي دفع الفن السابع المصري الى الأمام بقوة وتألق، مؤسساً لتلك التيارات التي ورثت كل هؤلاء منذ بداية الثمانينات من القرن الماضي، وأعطت العالم أفلاماً مصرية وغير مصرية حقيقية اعتبر معظمها علامات في تاريخ السينما. ولعل اللافت في مسار توفيق صالح، انه كان الأكثر من بين كل هؤلاء وكل ورثتهم، ارتباطاً بالقضايا العربية ككل، من ناحية، ومن ناحية ثانية - وفي اعتقادنا ان الوقت حان لقول هذا بكل وضوح - انه كان الأكثر كسلاً بينهم. أو هذا على الأقل ما كانت تقوله الحكاية والتي رددناها هنا بدورنا مرات ومرات الى درجة دفعت المخرج الكبير الى الرد علينا، بتهذيبه المعتاد، متحدثاً عن «حظ سيئ» و«مؤامرات» اتهمها بأنها كانت وراء قلة عدد انجازاته طوال سنوات وسنوات. ومهما يكن من أمر نعتقد ان هذا لم يعد كبير الأهمية إذ رحل الرجل، حتى وإن كان هو نفسه سيظل بشكل أو بآخر لغزاً غريباً. وكيف لا يكون لغزاً هو الذي سمعنا منه عن مشروع عن «ابن رشد» قبل سنوات من ولادة مشروع يوسف شاهين عن فيلسوف قرطبة الكبير («المصير»). ومنه سمعنا عن مشاريع تحويل روايات عدة لمحفوظ الى السينما، ولا سيما منها «حضرة المحترم» و«الحرافيش» قبل أن يفكر أي شخص بذلك... ثم لا شيء. ومنه سمعنا للمرة الأولى، قبل نحو عشرين سنة، عن رواية خيري شلبي الرائعة «وكالة عطية»، لمناسبة إخبارنا انه يحضّر سيناريو عنها، ثم... لا شيء. هل نتابع؟ حسناً: قبل سنوات اتصلت الفنانة لوسي وزوجها المنتج سلطان الكاشف، بتوفيق صالح واتفقا معه على مشروع سينمائي، ودفعا له العربون. تحمس لأيام، ثم اتصل بهما وأرجع المبلغ من دون أي تفسير! وقبل سنوات أيضاً، في جلسة ودية في مدينة خريبكة المغربية، حدث أن روى توفيق صالح، حكاية تصويره فيلمه «صراع الأبطال» (1911) في الريف المصري. وبدت روايته للحكاية من الروعة بحيث رأينا على الفور انها يمكنها ان تشكل موضوع فيلم سينمائي من نوع سينما عن السينما. يومها، ما إن انتهى صالح من حكايته، حتى وقف كاتب هذه السطور وسأل الفنان الكبير: «لماذا يا صديقي لا تحقق فيلماً انطلاقاً مما تروي؟». نظر توفيق صالح يومها بدهشة كأن أحداً يغدر به، فيما كان المنتج التونسي حسن دلدول يمد يده الى جيبه ليخرج دفتر شيكاته معلناً استعداده الفوري لتمويل المشروع ودفع الدفعة الأولى فوراً... والناقد المغربي العامل في «قنال بلوس» الفرنسية في ذلك الحين نور الدين صايل، يؤكد سهولة الحصول على بقية التمويل من «قنال بلوس». عندما وجد توفيق صالح نفسه «محاصراً» الى هذا الحد... ضحك وقال: «أنتم عاملين عليّ مؤامرة ولا إيه؟». رافضاً أي بحث في الأمر، قائلاً: «يا أصدقائي، عندي مشاريع أكثر جدية بكثير!». طبعاً كنا جميعاً نعرف ان لدى توفيق صالح مشاريع كثيرة... لكننا كنا بدأنا نعرف أيضاً ان توفيق صالح لن يحقق أياً منها... ولا نعرف لماذا. من شلة الحرافيش المهم، بعد ذلك بسنوات قليلة أنهى توفيق صالح عامه الثمانين. وهو انتظر الوصول الى هذه الشيخوخة حتى يبدي بعض علامات المرض والإعياء، حتى وإن كان هذا لم يمنعه من أن يمضي جلّ وقته في السينما ومن حول السينما. وهو الشيء الذي لم يفعل على أي حال سواه، طوال أكثر من سبعين عاماً، باستثناء صحبته لنجيب محفوظ. إذ من المعروف أن توفيق صالح كان واحداً من «الحرافيش» الذين التموا منذ وقت باكر من حول صاحب «الثلاثية». ولم تكن مصادفة ان يكتب نجيب محفوظ لتوفيق صالح سيناريو فيلمه الأول «درب المهابيل» (1955). منذ «درب المهابيل» بدأ اسم توفيق صالح يلمع في فضاء السينما المصرية، أسوة بلمعان اسم مجايله وابن مدينته الاسكندرية، يوسف شاهين. وكان متوقعاً، نظراً الى ان نجيب محفوظ كان دخل ممارسة الكتابة للسينما بقوة منذ ذلك الحين، أن يتواصل التعاون بينه وبين توفيق صالح. لكن الذي حدث هو العكس: طوال العقود التالية غاب التعاون تماماً وبقيت الصداقة الحميمة. وحتى إذا كان كثر توقعوا، عند صدور أجزاء «الثلاثية» المحفوظية، أن يتولى توفيق صالح نقلها الى السينما، خاب هذا التوقع تماماً. ولاحقاً بعد سنوات طويلة حين طرح كاتب هذه السطور سؤالاً حول هذا الأمر على توفيق صالح، في حضور نجيب محفوظ، اكتفى صالح بابتسامته الغامضة وقال: «الحق على الأستاذ... لو كتب السيناريو بنفسه لفعلت». ومن المعروف ان نجيب محفوظ لم يرض أبداً بكتابة سيناريو لأي من أعماله... لكنه مع هذا كتب سيناريوات لروايات إحسان عبدالقدوس، ولأعمال أمين يوسف غراب ويوسف السباعي!! مهما يكن من أمر، حقق توفيق صالح، طوال مسيرته المهنية التي دامت نحو ستة عقود، عدداً قليلاً جداً من الأفلام: 7 أفلام روائية طويلة، وأكثر منها قليلاً من الأفلام القصيرة والمتوسطة. ونعرف اليوم ان لكل فيلم من أفلامه الطويلة مكانة أساسية في تاريخ السينما - إذا استثنينا آخر أفلامه «الأيام الطويلة» عن سيرة حياة الديكتاتور العراقي صدام حسين كما كتبها عبد الأمير معلا، وهو فيلمه الروائي الوحيد بالألوان، والذي يجب إسقاطه تماماً من فيلموغرافيا توفيق صالح! -. فتوفيق صالح بعد «درب المهابيل» حقق «صراع الأبطال» في العام 1962، و «المتمردون» في العام 1966، و «يوميات نائب في الأرياف» في العام 1968، و «زقاق السيد البلطي» (1969) ثم «المخدوعون» في سورية (1971) وأخيراً «الأيام الطويلة» الذي أشرنا اليه، في العراق، عام 1981. أما بالنسبة الى الأفلام القصيرة، فمعظمها تسجيلي حول رحلة عبدالناصر الى الهند والتصنيع في مصر، وصناعة الدمى و «كورنيش النيل»... علماً أن هذا النوع الأخير من الأفلام لا يمثل نقاط قوة في تاريخ الرجل. فتوفيق صالح، الحكواتي بامتياز كان صاحب خيال عريض لا يتناسب مع التقاط الواقع كما هو وتصويره. وهو كان لديه من المثل العليا والتطلعات الإنسانية الثورية، ما جعل الناقد التونسي الطاهر شريعة يكتب دراسة حول «ماركسية» سينما توفيق صالح، وإن كان من الصعب علينا تقبل هذا التوصيف كقانون. فالحقيقة ان توفيق صالح وسينماه يحملان رفضاً لواقع البؤس والتخلف، من دون أن يحملا أي تصوّر أو مشروع للتخلص من هذا الواقع. فحتى حين يبدو أبطاله إصلاحيين ايجابيين، فإنهم لا ينتصرون في النهاية، على طريقة البطل الإيجابي، بل غالباً ما ينتهي بهم الآمر خاسرين. ولعل هذا ما يميز سينما توفيق صالح عن سينما بقية «الثوريين الماركسيين». فهو كان وظل على الدوام يرى أن على الفن أن يطرح الإشكاليات، لكن ليس عليه أن يوجد الحلول جاهزة. «الفن ليس إجابة. هو سؤال» كما كان يردد دائماً. وعي مبكر والحقيقة ان فناناً مفكراً من طينة توفيق صالح عاش طفولته في الاسكندرية وبعض سنوات شبابه في باريس وأقام في القاهرة منذ العام 1953، داعماً لثورة جمال عبدالناصر ثم منتقداً لها من الداخل «لأنها هي التي تغيرت وخيبت الآمال» كما أكد منذ البداية وظل يؤكد طوال حياته -، وأن سينمائياً من نمط توفيق صالح الذي ارتبط باكراً بالسينما السوفياتية الكبيرة من ناحية الأشكال ولعبة التوليف والتجديدات الفنية، لا من ناحية البعد الايديولوجي، تاركاً للواقعية الجديدة الإيطالية ان تساعده على صوغ أفكاره، ما كان يمكنه ان يكون «تبسيطياً ماركسياً» كما أراده بعض النقاد الذين أفرطوا في حبه الى درجة أن ضمّوه عنوة الى أفكارهم وتطلعاتهم! منذ البداية، أحب كثر توفيق صالح. وكثر توقعوا منه أكثر مما كان يمكنه ان يقدّم وهو في قرارة نفسه عانى هذه الازدواجية طويلاً إذ وقفت حائلاً بين التفكير والتنفيذ لديه. ولكن مهما يكن من أمر، بكسل أسطوري أو من دونه، بماركسية أو من دون ماركسية، يبقى ان توفيق صالح، على قلة الأفلام التي حققها طوال مساره المضيء، عرف دائماً كيف يحفظ للسينما كرامتها، هو الذي، ووفق تعبير المخرج يسري نصرالله الذي سلمه خلال حفلة تكريم له في مراكش قبل سنوات، درع التكريم، «صَنع سينمائيين وجمهوراً ومكانة للسينما أكثر مما صنع أفلاماً بكثير». وهو الذي، إذ عرضت في مراكش يومها أربعة من أفلامه الأساسية وأقبل الجمهور بكثافة لمشاهدتها، كشفت هذه الأفلام انه، ومنذ تلك الأوقات المبكرة، شاهد من الحقائق ما عجز عن مشاهدته معظم أبناء جيله، وجدّد في فن السينما وفي علاقة الجمهور مع هذا الفن، أكثر مما فعل أي مخرج عربي آخر، باستثناءات قليلة جداً.