يَجلس المُقدم البريطاني المعروف آلان ينتوب في غرفة ضيوف بيت المعماريّة العراقية الأصل زُها حديد في لندن. يُحاورها في أمور شتى، ويجرهما الحديث إلى مدن عدة، منها بغداد، المدينة التي تملك أهمية خاصة للضيفة ومحاورها، فكلاهما يرتبط جينيّاً بالعاصمة العراقية، المحكومة بالعذاب والكوارث، فوالدا آلان ينتوب اليهوديان العراقيان غادرا المدينة في بداية الخمسينات، وهو العقد ذاته الذي ولدت فيه المعماريّة العراقية الشهيرة. زُها حديد ستترك العاصمة العراقية في نهاية الستينات متوجهة صوب لندن، ولن تكون «بغداد» إلا ذكرى بعيدة غائرة، تَغلُب عند استعادتها صور الحروب والدمار والأحزان، والتي لم تفارق المدينة منذ انطلاق ثوراتها القومية والوطنية في نهاية عقد الخمسينات من القرن العشرين، وهي الأعوام التي آذنت بهجرات العراقيين الأولى في العصر الحديث، والتي سَيَعقُبها هجرات وهجرات. تتذكر زُها حديد بيت العائلة الفخم على نهر دجلة في بغداد، وهي ابنة السياسي العراقي محمد حديد، وسَليلة بورجوازية عراقية معروفة. مُنحت الطفلة وآخر عنقود العائلة حريّة كبيرة، ستصمم مثلاً إحدى غرف جلوس البيت الكبير، وهي في التاسعة من عمرها، وستبدأ بعدها بتصميم ألبسة لصديقاتها من الطالبات. ستتأثر زُها، بالمدينة التي كانت تتفتح على العالم، فبغداد كانت في طليعة مدن المنطقة، في فتحها الأبواب لمعماريين أوروبيين لتصميم أبنية ما زالت قائمة لليوم في المدينة. سَتمر حديد قليلاً على بشائر التفاؤل عند عراقيين لإقامة مدينة عصرية في بلدها، وسيستعين البرنامج الثقافي البريطاني «تخيّل...» في حلقته مع المعماريّة العراقية، بأرشيف «هيئة الإذاعة البريطانية» ( بي بي سي)، ليقدم مشاهد من بغداد الخمسينات، والتي غَلبَ عليها، وكحال معظم الحواضر العربية في ذلك الوقت، الهدوء والتنظيم. تُشبه غرفة جلوس زُها حديد في لندن، متحفاً صغيراً، فهي تحيط نفسها بنماذج للتصميمات التي اشتغلت عليها طوال العقود الثلاثة الماضية. لم يكن مشوارها حافلاً فقط بالنجاحات، فالفشل كان حاضراً أيضاً، وربما تَغلب كفته على النجاح في قصة المعماريّة، فمعظم التصاميم المُصغرة في غرف جلوسها، لم تجد فرصة لتنفيذها فعلياً، بسبب فشلها في إقناع الأشخاص المعنيين على اختيار التصاميم، كما عانت زُها حديد في بداية مسيرتها من الصور النمطيّة، فهي امرأة، ومن أصل عراقي، في عالم تحكمه المزاجات الذكورية المتعاليّة. لكنّ موهبة زُها سَتلفت مهتمين، والأبنية القليلة التي صممتها لليوم، ستكون علامة في تاريخ العمارة الحديثة، وسترفع شأن صاحبتها إلى صفوف أبرز مصممي العالم، وأكثرهم إثارة للدهشة وتحدياً للعمارة التقليدية. وتمر حلقة البرنامج الثقافي البريطاني التي عرضت أخيراً، وحملت عنوان «زُها حديد: من يجرؤ يفوز»، على أبرز تصميمات زها حديد، ومنها متحف الفن الحديث في العاصمة الإيطالية روما. يربط أحد زملاء حديد بين تصميماتها وبين الخط العربي والعمارة الإسلامية، فالأقواس والانسيابية التي تُميز تصميمات زها حديد تشبه أيضاً كثبان رمال مندلقة أو خيماً عَصفت بها رياح شديدة. زُها حديد تتحدث فقط عن تأثيرات مدرسة «كلية الرابطة المعماريّة للهندسة المعماريّة» الراديكالية في لندن، التي درست فيها في بداية عقد السبعينات، ثم عملت فيها مدرسة، وهي الكلية التي هَزت مفاهيم العمارة. هناك فضاءات متعددة المستويات في تصاميم زُها حديد، تجعل أبنيتها تحمل ذلك الطابع السريّ، الذي ينتظر الاكتشاف، والمثير بشدة للمهتمين. نقلت صحف عراقية قبل أسابيع، أن زُها حديد ستصمم بضع بنايات في مدن عراقية، كما أن هناك عقداً مع المعماريّة العراقية لتصميم مبنى المصرف المركزي العراقي وُقّع العام الفائت. لكن حديد لم تتحدث في اطلالتها التلفزيونية النادرة عن الحاضر العراقي، هي في المقابل كشفت عن أحلام ما زالت تملكها، لمزيد من تصميمات العمارة الحديثة الجريئة، في قلب العاصمة البريطانية، وهي المدينة المعروفة بمحافظتها ورغبتها في الإبقاء على ماضيها المعماري الكلاسيكي.