في روايتها الثالثة «رحلة الضباع» ( دار «سما» - القاهرة) تواجه سهير المصادفة جملة من الموروثات والأعراف الاجتماعية والثقافية لمجتمع ذكوري شرقي أبوي، يكرس هيمنة ذكورية متعسفة، ونظرة دونية للمرأة. ومن ثم، نحن إزاء رواية تقع في المنطقة الشائكة، وتعنى بتحريك المياه الراكدة، والبحث عن بواعث العنف الذي يمارسه الرجل ضدها. تتكئ الرواية على موروث ثقافي وتراثي عميق يبدأ من «الدر المنثور في طبقات ربات الخدور» لزينب فواز (1844-1914) و»الفتنة الكبرى» لطه حسين، و«الحيوان» للجاحظ، و«الأغاني» للأصفهاني، وينتهي بتاريخ المقريزي والجبرتي، لتبرز بوضوح التشابه بين طبيعة عنف الرجل الذي ينتهك المرأة والحياة، وطبائع الضباع الشرسة التي تفضل لحوم البشر على سواها، وتلتهم فريستها وهي حية. وتتساءل الكاتبة بألم: «بعد كم صرخة استغاثة وكم طعنة مؤلمة، وكم أمنية وكم مشهد من مشاهد ذكرياتها في هذه الحياة، ستموت فريسة الضبع؟». ثلاث روايات تضم «رحلة الضباع» ثلاث روايات، لثلاث علاقات مختلفة بين الرجل والمرأة، في أزمنة مختلفة، الأولى واقعية وآنية، والثانية تاريخية غرائبية، والثالثة أسطورية، وتستمر كل واحدة قرابة العقدين، وتشترك كلها في تسليط الضوء على العنف الجسدي والبدني والنفسي والعاطفي الذي يمارس ضد المرأة. وفيما تكشف الرواية الأولى (عبر سبعة فصول) عن مشاعر مرتبكة من «جمال» الصحافي تجاه زوجته «نرمين»، تتأرجح بين الحب والاحتياج الغريزي إليها، وبين الكراهية والحرمان والبخل العاطفي في الوقت ذاته. ولا تقتصر نظرته الفصامية على «نرمين» فقط، بل تمتد لتشمل المرأة عموما، حتى أمه وأخته، بما يرجح وقوعه أسيراً لميراث طويل من الشك الدائم في المرأة. هكذا يزرع «جمال» كاميرات صغيرة في أرجاء البيت، تمكنه من مراقبة زوجة اكتشف مصادفة أنها تمارس الكتابة في غيابه حين عثر على ورقة ممزقة في سلة المهملات بها كلام فاحش. وفي سياق شبه تاريخي تتناول الرواية الثانية (90 صفحة بين الفصلين الرابع والخامس) علاقة السوداء بنت أبيها بصفتها جارية، مع سيدها عمر بن عدي، والتي تبدأ من عام 34 ه مع بداية الفتنة، عندما تنطلق في أثره من شعاب مكة إلى الكوفة، محملة بنبوءة للطرفين المتقاتلين، تحذرهم من الحروب بين المسلمين، فالمذابح لو بدأت، فإنها لن تنتهي. تسعى السوداء خلف عمر، بينما يسعى هو خلف ما لا تعرفه، الحرب، قائلاً: «إذا كانت الحناء خضاب النساء، فالدماء خضاب الرجال». وحين تصل السوداء إلى الكوفة بعد سنوات تجد أن ما تنبأت به قد وقع، وترى زوجها في خيمة بين الطرفين المتحاربين يتاجر بالسلاح. حكاية منفصلة حيث لا مكان ولا زمان محددين، تأتي الرواية الثالثة، أسطورية وموجزة، لكنها تمتلك مقومات رواية منفصلة، حول أميرة تعيش في قصر تحيطه الغابات مع حبيبها الأمير، لكن ساحرة شريرة تجذبه، فيسير خلفها، وتخرج في أثره الأميرة، لكنها تضل الطريق، فيعرض عليها غراب أن يسلبها صوتها الجميل وجمالها مقابل أن يدلها على مكان الأمير، فتوافق، وعندما تصل إليه تكون عجوزاً قبيحة، فيرفضها متعللاً بأنها ليست حبيبته، فتموت في الحال أمامه، وما إن تموت حتى تستعيد صورتها الأولى. المشهد الإروسي الوحيد في «رحلة الضباع» مكتوب من دون ابتذال، وموظَّف تماماً داخل هذا النص ولا يمكن فصله عنه، فهو المحرك الرئيس لأحداث الرواية. فعثور «جمال» على نص ممزق مكتوب بخط «نرمين» يصور لقاء حميماً بين رجل وامرأة، يصيبه بالشك، ويدفعه إلى زرع كاميرات في البيت، مع أن النص مكتوب على لسان الجارية السوداء، وهو جزء مما حدث لها في رحلتها بين مكة والكوفة، وقد حذفته «نرمين» تحت وطأة وازع أخلاقي ربما، أو لأنه زائد عن الحاجة، لكنه ومن باب المفارقة، يكتب نهاية زواجهما. من البديهي أن تكون «نرمين» هي ساردة هذه الرواية، لكنّ ما حدث كان العكس، فالكاتبة جعلت من «جمال» الراوي بضمير المتكلم، وبدت ظاهراً موضوعية حين منحته حق السرد، ووضعت على لسانه من الجلافة ما يكفي لإدانته، فيما «نرمين» صامتة. ولا شك في أن هذا جلب تضامن القارئ الافتراضي مع «نرمين»، أكثر مما لو كانت هي التي تحكي. قدمت سهير المصادفة من خلال إيقاع روائي لا يفقد توتره رغم قلة الأحداث، سرداً مركباً ومتدفقاً ورشيقاً، يؤدي أكثر من وظيفة غير الإخبار الذي يقوم به السرد البسيط. وبفضل عدد من تقنيات الكتابة الفنية، يشعر قارئ «رحلة الضباع» أنها كتبت دفقة واحدة، كأنها جملة طويلة تبدأ من أول صفحة، ولا تنتهي إلا في نهايتها، في لغة صافية، تخلصت من التقعر والتحليق، مطاوعة، تصبح عصرية حين يراد لها أن تكون عصرية، وتراثية وشعرية وعلمية حين يراد لها. وأثرى ذلك الرواية بأربعة مستويات مختلفة للسرد: أحدها عصريٌ للفصول السبعة على لسان «جمال»، سرد واقعي، بلغة وأسلوب أدبي عصري، وثانيها تراثي، لنص «رحلة الضباع» الذي أملته السوداء ويزخر بأساليب النداء والحوار التراثية المهجورة حالياً، والثالث شعريٌ شفيف وحزين وعذب في مونولوج على لسان «نرمين»، عنوانه «في انسحاب المحبة» بضمير المخاطب، ويدور حول «نرمين» التي تجرب الكتابة بأسلوبها الخاص عن علاقتها ب «جمال» حين توشك على الانفصال. ورابع المستويات السردية هو السرد العلمي الجاف، وهو محايد، يتحصن بالدقة العلمية والموضوعية، وينأى عن المجاز. ويتمثل في مداخل الفصول السبعة بكلام ومعلومات عن الضباع وطريقة حياتها وسلوكها في الاعتداء على الآخرين، إضافة إلى الهوامش الموجودة أسفل بعض الصفحات لتوضيح معلومات تاريخية، أو الإشارة إلى أسماء شخصيات أو كتب أو معلومات تاريخية. بصفتها رواية تقع في المنطقة الشائكة من الإبداع على مستوى المضمون، وتزخر بتقنيات سردية وفنية لا يتسع المقام لذكرها على مستوى الشكل، فإن «رحلة الضباع» تعد إضافة حقيقية للرواية المصرية والعربية.