تشير كلمة صورة في الثقافة الغربية الحديثة إلى حقائق حياتية عدة. هناك الصورة الذهنية التي تمرّ ببال الإنسان، وهناك الصورة الحلم التي تستعاد أثناء يقظتنا، وهناك الصورة الشعرية التي يمتاز بها الشعراء، وهناك الصورة الرمزية التي تمثّلها الأيقونات، وهناك أخيراً الصورة الفوتوغرافية والصورة الرسم. والصورة في أبسط تحديداتها نسخة عن مشهد من مشاهد العالم، تلتقطها رهافة إحساس، هي نوعاً ما، فردية، عامة ونموذجية في الوقت نفسه، يتميّز بها الفنان، أو أيّ شخص آخر ينقل إلينا معلومات، ومشاعر تجذبنا وتسحرنا بمضمون ما تنقله. في كتاب الفرنسي جاك أومون «الصورة» الذي نقلته إلى العربية ريتا الخوري، ونشرته «المنظمة العربية للترجمة»، مجموعة أبحاث تتناول تاريخ الصورة، وإدراك أبعادها، وفهم وظائفها وقدراتها في منافسة الكلمة تعبيرياً وجمالياً. يتساءل صاحب الكتاب بعد تفنيده لعملية إدراك الصورة، عن الاستعمالات والوظائف الخاصة بالصورة في المجتمعات الإنسانية، منذ فجر الخليقة حتى اليوم، فيقول: «تشكّل الصورة أحد الأغراض الأكثر قدماً وثباتاً في دراسة علم الإنسان» لأنها، بخلاف الأغنية والرقصة والخطاب، لا تتلف مع الوقت. لذلك، يصحّ القول إن معرفة الإنسان الأوّل تمّت من خلال صوره على حيطان الكهوف، ومن خلال أدواته البدائية. تاريخياً، اعتبرت الصورة على ما يذكر الباحث الفرنسي، بمثابة رمز كما نرى ذلك في شكل ظاهر في صورة السمكة عند المسيحيين والهلال عند المسلمين، ومن خلال ما أنتجته الثورة الفرنسية من أيقونات، تمثّل أفكاراً ثورية حول الحرية والعدالة والمساواة، أو ما أنتجته الدول التوتاليتارية من صور لقادتها. كان لصور ستالين، وصور ماو تسي تونغ أكبرالأثر في نشر الدعوة الماركسية. في الواقع، يمكن كل صورة أن تؤدّي دوراً رمزياً، ليس بموجب صفاتها الجوهرية، بل بموجب قرار جماعي، أو ديني، أو سياسي، أو تجاري، كما هي الحال مع الإعلانات التي نشاهدها على الطرق أو في التلفاز. وفي هذا السياق يحسن ذكر «النمر» الذي استعملته شركة «توتال» للإشادة بقوة وقودها، والذي شبّهه المخرج الفرنسي الشهير غودار بالنمر الورقي الإمبريالي، بفعل انزلاق من رمزية إلى أخرى. تؤمّن الصورة، كما هو معروف، معلومات بصرية حول العالم، وبذلك تتيح التعرّف إليه، وإلى بعض جوانبه المجهولة. لكن طبيعة هذه المعلومات تتغير بفعل الوقت. فخريطة الطريق، والبطاقة البريدية المصوّرة، والبطاقة المصرفية المشخصنة، هي جميعها صور، إلا أنّ قيمتها الإخبارية تختلف من عصر إلى آخر. ففي حين كان إنتاج الصور في القرون الوسطى وقفاً على رجال الدين، وذا هدف ديني يتمثّل في تزيين الكتب المقدسّة وكتب الصلاة، صار إنتاج الصور في مطلع العصر الحديث ذا هدف توثيقي من خلال ما نشاهده في السينما والفيديو والتلفزيون والإنترنت. بدأ الحديث عن «حضارة» الصورة منذ ستينات القرن الماضي مع انتشار السينما، خصوصا التلفزيون الذي بدّل المعلومة المكتوبة بالمعلومة البصرية والشفوية، وأكثر من الصور إلى درجة أنّ المنظّرين الأوائل للصورة أمثال شافير ومكلوهان، اعتبروا في كتاباتهم أنّ الإكثار من الصور يغرق الإنسان الحديث في عالم من الضوضاء، يضيع فيه بين ما يعيش في حياته الواقعية، وما يراه من صور تتدفّق عبر السينما، وقنوات التلفزيون والإنترنت. لم تعرف الصورة الأهمية المعطاة لها في عالمنا اليوم، إلا لأنها وسيلة تعبير مباشرة عن الواقع، تنقل معانٍ متصلة باللغة الكلامية، وتحرّك أهواءنا وأحاسيسنا. ونظراً إلى اضطلاعها بهذا الدور، دخلت في حال تنافس مع الكلمة التي تقوم بالوظيفة نفسها. من هنا، كان التساؤل منذ القرن التاسع عشر عن علاقة الصورة بالكلمة وأيهما أبلغ؟ وما فتئ هذا التساؤل قائماً حتى اليوم، فالكاتب الكبير ليسنغ، وهو ممن واكبوا تأسيس ميدان علم جمال جديد، يتساءل عن الفوارق بين الشعر والرسم، من خلال الشعور الخاص الذي يعطيه كل من الصورة والكلمة، ويقول إنّ لفنّ الرسم والنحت قوة تعبيرية، ومثيرة نشعر بها في شكل فوري، بينما هي في الشعر تمرّ من خلال وساطة الكلمات، ثمّ يستنتج قائلاً إن الصورة تفوق الكلمة قيمة على صعيد الإثارة، وتقلّ عنها على الصعيد المعرفي. لقد تكرّر هذا النقاش حول علاقة الصورة بالكلمة في الستينات من القرن الماضي، عبر مختلف المدارس السميولوجية، إما لإظهار الفوارق الأساسية بين المعنى الذي تعطيه الصورة، والمعنى الذي تعطيه الكلمة، فالمظاهر التركيبية والوصفية المرتبطة بالقواعد الكلامية لا يمكن أن تنطبق على الصورة، والصور، ومن بين أمور أخرى، لا يمكن أن يقال عنها صحيحة أو خاطئة. إما لإبراز أوجه التشابه، أو العلاقات الضرورية في ما بينها. إذا كانت الصورة مثل الكلمة تتضمّن معنى ما، فيجب بالتالي أن يقرأ المرسل إليه، أو المشاهد هذا المعنى، وهنا تكمن مشكلة تفسير الصورة. والجميع يعرف من خلال التجربة المباشرة، أننا لا نرى الصور بطريقة واحدة، يحدّدها كلياً جهاز الإدراك، وإنما نرى ما نستطيع فهمه. إن مسألة تفسير الصورة، هي كمسألة تفسير الكلمة، مسألة سيميائية وفلسفية عامة، تتخطّى بشدة المعنى المباشر للصورة، فالمعنى كما يقول تودوروف، مرتبط بالتفسير، وقد اختلفت مدارس التفسير في تعليقها على الصورة مع المشروع السميولوجي الألسني في الستينات والسبعينات من القرن الماضي. مشروع حاول إعطاء إجابة عامة عن تفسير الصورة من خلال مفهوم الرمز الذي تحدّث عنه بانوفسكي بقوله إن كل عناصر الصورة المفسرة هي رمزية، بالمعنى الواسع، أي أنها تشمل إشارات ثقافية، تكشف عن روحيّة خفيّة ما، أو مدرسة ما، أو تيار ما، كما تكشف عن شخصية صانع الصورة. لا شك في أن دراسة الصورة بالنسبة إلى فن الرسم، والتحليل النصي بالنسبة إلى الفيلم ، شكّلا المقاربتين اللتين مورستا كثيراً في مجال تفسير الصورة، وهما يشتركان في مبدأ تحليلي، يقودهما إلى البحث عن المعنى، وذلك في العناصر الأكثر دقّة في الصورة، من جهة، ومن جهة أخرى، في التركيب الخاص المرتبط بهذه العناصر، وأخيراً في المراجع الاتفاقية التي يمكن أن نربطها بها. إلا أنّ هذه الطريقة التحليلية ليست الطريقة الوحيدة التي يمكن تصوّرها. فعديد النقاد آثروا ممارسات مركّبة أكثر، تقوم على الفهم الأنطولوجي للنظرية التفسيرية التي وضعها هيدغر في مطلع القرن العشرين، وطوّرها غادمير وريكور، أو اختاروا النهج التفكيكي الذي دعا إليه دريدا الذي أجّج الكثير من التنافس في تسعينات القرن العشرين بطرحه التفسيرات الخاصة بالنص، والصورة، والفيلم السينمائي، والتي تقوم على تفكيك بنية النص أو الصورة وإعادة بنائها تبعاً لمفهوم لا نهائية المعنى في النص. في الخلاصة، يقدّم كتاب «الصورة» لجاك أومون عرضاً للمجالات الحديثة المتصلة بعالم الصورة، كوسيلة تعبير، وكطريقة تواصل تجسّد مكنونات الفكر. ونظراً إلى ندرة الاهتمام بالصورة في كل أبعادها في المؤلّفات العربية، فإن القارئ العربي يجد في هذا الكتاب زاداً فكرياً يوسّع آفاقه الثقافية.