يبدأ عثمان بن بشر تاريخه بمطلب تقليدي لا مفر منه آنذاك لكل مؤرخ أو كتاب تاريخي. كان عادياً ومنطقياً أن يبدأ الحديث عن وقائع الأسرة الحاكمة في نجد وأيامها وأخبارها، بالحديث عما قبلهم من أحوال اجتماعية وثقافية وسياسية. يبدأ لكي يستوفي جوانب ما يؤرخ له. إن ما كان شائعاً قبل أسرة آل سعود الحاكمة يبيّن فضلَهم، وما حدث على إثر تحالف مؤسس الأسرة مع الشيخ محمد بن عبدالوهاب يبيّن إلى أي حد كانت تأثيرات التحالف عميقة في أحوال إقليم نجد سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً. يميز ابن بشر بين واقعين: واقع ما قبل التحالف يسميه مرة «السوابق»، ومرة «السنين الشريرة»، وبين واقع ما بعد التحالف ويسميه «السنين النَّيِّرة». من أين يعرف القارئ فضل التحالف بين فكرتين دينية وسياسية؟ بين تنظيم وآيديولوجيا؟ من مقارنة ما هو كائن مع ما كان قبله. هذا مجرد احتمال نستنتجه من كون المقارنة جاءت في مدخل كتاب «عنوان المجد في تاريخ نجد». متى ما قبله القارئ سلّم بأن هناك واقعين، هما: واقع ما قبل التحالف، وواقع ما بعده. *** من يقرأ «السوابق» أو «السنوات الشريرة»، في مؤلف ابن بشر التي ذيل بها المحقق الجزء الثاني من الكتاب، يلاحظ أن لا وجود اجتماعياً متطوراً في إقليم نجد، أي إنتاج ثروة، ووجود علاقات أناس أثناء عملية الإنتاج، ولا وعي اجتماعياً، أي آراء ومفاهيم وأفكار. لا نظريات سياسية، ولا قانونية، ولا جمالية، ولا أخلاقية، ولو عند مستوى بسيط. هناك شكل أولي من أشكال الوجود والوعي الاجتماعيين، كنتاج مباشر للعلاقات المادية البسيطة بين الناس. لا يوجد صراع بين قديم وجديد يفضي إلى انتصار، ذلك الذي جاءت به إلى الوجود متطلبات الحياة المتغيرة. هناك ركود على مستوى التطور الفكري والثقافي والاجتماعي، يرجع في أصله إلى عدم وجود أي خطط بشرية لتغيير الطبيعة والمجتمع الذي يقتضي تغيير الناس. لا يوجد أي كيان سياسي مركزي، ولا دولة قومية، ولا مؤسسات تنتمي إلى المرحلة التاريخية. *** يتضح من وصف ابن بشر لواقع «السوابق» أنه واقع بدائي، يشبه الطفولة الإنسانية التي يكمن جوهرها الفكري في الاعتقاد في أشياء الطبيعة. يقول ملخصاً وضع نجد العام: «كان الشرك إذ ذاك فشا في نجد وفي غيرها، وكثر الاعتقاد في الأشجار والأحجار والقبور والبناء عليها والتبرك بها والنذر لها، والاستعاذة بالجن والنذر لهم، ووضع الطعام وجعله لهم في زوايا البيوت». لا يهمنا هنا المغزى الديني لما قبل التحالف وما بعده. ذلك أننا إذا نظرنا إلى هذا في ضوء تطور الفكر البشري سنجده يمثل الجزء القديم من المعرفة البشرية، فالناس لا يرون الصفات الموضوعية للأشجار والأحجار، إنما يرون تأثيرها النافع أو الضار. تحمل الأشجار والأحجار من وجهة نظر الجزء القديم من المعرفة الإنسانية إمكانات خفية تستطيع أن تؤثر في الإنسان، وبالتالي فجوهر الشجرة أو الحجر يكمن في أنهما (إله). يكمن الموقف الاجتماعي من الطبيعة في نفي جوهرها المستقل. يأخذ الناس آنذاك شجرة أو حجراً وهما موجودان من حولهم قبلاً في الطبيعة، ويعطونهما مضموناً كلياً من خارجهما أي من وعيهم الاجتماعي. يوجد جسمان ماديان لكنهما كيانان مميزان، يختفي وراءهما مغزى هو المضمون الروحي الاجتماعي. ليست الشجرة ولا الحجر مادتين جامدتين، إنما هما فعل سحري، يعيشان بفضل تقديس الناس لهما. يشبه هذا المرحلة «الفيتشية»، وهي مرحلة من مراحل تطور الإنسان لا ينتج فيها الإنسان شيئاً. يجمع ويصيد، ويكتفي بما يجده جاهزاً في الطبيعة. وعلاقته مع ما يحيط به علاقة ملاحظة بسيطة. يستطيع الإنسان أن يحدد الشجرة أو الحجر، إلا أنه لا يدركهما على ما هما عليه. هناك مرحلة أخرى، هي مرحلة ما بعد «الفيتشية»، يشير إليها ابن بشر بوضع الطعام للجن والعفاريت في زوايا البيوت. وهي مرحلة لا تكتسب فيها الأشياء والكائنات أي تشخيص. سمات الجن (العفاريت) عرضية، قصيرة الأجل، عابرة، لا شخصية لها. تظهر فجأة لتختفي فجأة. وفي هذا إشارة إلى ردود فعل الإنسان البدائية والساذجة على مصادفات الحياة التي لا نهاية لها. *** ما خطورة هاتين المرحلتين (الفيتشية وما بعد الفيتشية) بالنسبة إلى تاريخ نجد الفكري والثقافي والاجتماعي؟ تكمن الخطورة في أنهما غزت حواضر المجتمع النجدي وبلداته (الحاضرة). يقول ابن بشر: «والسبب الذي أحدث ذلك (الاعتقاد في الشجر والحجر والجن... إلخ) في نجد، والله أعلم أن الأعراب إذا نزلوا في البلدان وقت الثمار صار معهم رجال ونساء يتطببون ويداوون، فإن كان في أحد من أهل البلد مرض أو في بعض أعضائه، جاء أهله إلى متطببيه ذلك القطين من البادية. فيسألونهم عن ذوي علته، فيقولون لهم: اذبحوا في الموضع الفلاني كذا وكذا، إما تيساً أصمع، أو خروفاً بهيماً، وذلك ليحققوا معرفتهم عند هؤلاء الجهلة، ثم يقولون لهم: لا تسموا الله على ذبحه، وأعطوا المريض منه كذا وكذا، وكلوا كذا وكذا، فربما يشفي الله مريضهم فتنة لهم واستدراجاً، وربما يوافق وقت الشفاء حتى كثر ذلك في الناس، وطال عليهم الأمد، فوقعوا في عظائم الأمور بهذا السبب». *** في مقابل مجتمع البلدات (الحاضرة) يوجد مجتمع الأعراب (البدو)، الذين يؤدون مجمل عمليات العمل البسيطة التي يتطلبها جمع ما تنتجه الطبيعة اللازم لحفظ النوع واستمراره. هؤلاء الأعراب لا يتفاعلون كما يتفاعل الجسم، إنما يتفاعلون كما يتفاعل ركام ميكانيكي. لا يوجد للفرد منهم أي مضمون خاص، إنما شكل فارغ يتجسد فيه مضمون اجتماعي. طابعهم طابع استهلاكي محض «طابع امتصاص وتدمير» لما تنتجه الطبيعة. يتصف وعي (الأعراب) بالاهتمام بالوجود المادي للأشياء التي تدرك بالحواس. إنهم كالأطفال الذي يجربون الأشياء بواسطة أيديهم وأسنانهم، وهو ما يشير إلى تأخر في تصوراتهم الفكرية حتى على مستوى الحواس، ذلك أن حس الاستهلاك العملي الذي تعبر عنه حواس كاللمس والذوق والشم، تبدو دنياً بالنسبة إلى تصورات فكرية تستند إلى البصر والسمع. تكمن خطورة هؤلاء الأعراب ذوي التصورات الفكرية الدنيا في أنهم غزوا مجتمعاً من المفترض أن تكون تصوراته الفكرية أعلى. ترتب على ذلك أن فقدت بلدات نجد (الحاضرة) دورها الثقافي والفكري، فبدلاً من أن تؤثر تأثرت بما هو أدنى في مراحل التطور الفكري.