كلمات «البوب» لم تكن مجرد حديث صحافي إلى مطبوعة أجنبية. أفكاره المطروحة لم تكن مجرد حل سياسي لأزمة شديدة التيبس. مقترحاته لم تكن مجرد ظهور مفاجئ للرجل الرشيد الذي طالما تساءل الجميع إن كان مثله لا يزال بيننا. ما قاله نائب الرئيس المصري للعلاقات الخارجية محمد البرادعي المعروف ثورياً ب «البوب» أو «الأب الروحي للثورة» في مقابلة مع صحيفة «واشنطن بوست» أزاح الستار الحقوقي عن قلوب بعضهم وأزال الغطاء الإنساني عن عقول آخرين وكشف ما تجيش به الصدور من كراهية شديدة ومقت عميق أو مثالية عتيدة وأفلاطونية متأصلة. وإذا كانت أفعال جماعة «الإخوان المسلمين» وحلفائها في «رابعة العدوية» و «النهضة» و «سيناء» وحدت قلوب المصريين بشتى توجهاتهم، بدءاً ب «الفلول» ومروراً ب «حزب الكنبة» وانتهاء بالثوار، على قلب رجل واحد وامرأة واحدة ضدهم، فقد أدت كلمات البرادعي إلى إعادة تصنيف الجميع بحسب خانات مستجدة في الشارع المصري. وفي الشارع المصري كان كثيرون يحتفظون حتى الأمس القريب بأحلام يقظة تراودهم عن سحق الجماعة سحقاً شديداً ودك اعتصام «رابعة» دكاً عنيفاً ونفي مشايخها نفياً رهيباً ومحاسبة رموزها حساباً عسيراً وحل كياناتها حلاً أكيداً. لكنهم كانوا يعتبرونها أحلاماً ممنوعة لا ينبغي المجاهرة بها. قد يفضي أحدهم لزوجته برغبته تلك، ويفاجأ بأن رغبات مماثلة تراودها منذ رأت بعينها ما يفعله أنصار «الشرعية والشريعة» من تدريبات قتالية وبناء متاريس أمنية وتسلح بالعصي والأسياخ الحديد. وقد يحدّث بها أحدهم صديقه المقرب، ليجد أنه يفكر في الاتجاه ذاته منذ سمع أنصار المعزول يشتمون الجيش ويسبون قياداته التي انتشلت مصر من غياهب حكم ديني. وقد يكتبها أحدهم في تدوينة خاصة على «فايسبوك» لا يراها سوى أصدقاء مقربون يثق في أنهم لن يتهمونه بالقسوة أو الحدة، قد يؤنبونه فقط، لكنه يصعق حين يجد التعليقات أشد قسوة وأعمق حدة مطالبة بالقضاء على تلك الجماعة المتهمة بأنها «خائنة عميلة» وبنعوت أخرى كثيرة. كان هذا يحدث في العقل الباطن، وخلف الأبواب المغلقة، وداخل ال «إنبوكس» الشخصي. لكن ومع تفاقم اعتصام «رابعة» ليتحول إلى «رابعة ستان» وتصاعد تحريض المنصة ليتحول إلى دعوة صريحة للحرب الأهلية على كل من قال لمرسي لا، ومع توجه أتباع الجماعة من سكان القرى والنجوع لمخاطبة أميركا وأوروبا لطلب التدخل بعد ما كانا بالأمس القريب «الغرب الكافر الداعر»، أتت كلمات «البوب» عن «المصالحة» و «الإدماج الاجتماعي» و «العيش معاً» و «التنوع» و «قبول الآخر» لتكون بمثابة «حبوب الصراحة والمجاهرة». وإذ بأحاديث الشارع تنتفض غضباً وتتفجر صلفاً، وإذ برسائل «إنبوكس» تتحول «ستاتوس» صريحة لا ريب فيها. وإذ ب «ريتويت» منسوبة للغير عن ضرورة فض اعتصام بالقوة هنا أو دك رؤوس الجماعة هناك تتحول «تويتاً» خالصاً يحمل اسم المغرد من دون حرج أو كسوف. «خلاص! لا مجال لعفا الله عما سلف. هذه جماعة دموية لا تصلح للعيش بيننا». «مصالحة؟! وهل أولئك يفهمون المصالحة؟ كلمهم عن الدماء عن السحق عن القتل، لكن المصالحة ليست في عقيدتهم». «الجماعة لا عهد لها! سيتصالحون اليوم ويضربون غداً». كثيرون من البسطاء وجدوا أنفسهم عاجزين فعلياً ونفسياً عن اتباع القاعدة المصرية التاريخية المتبعة عقب المشاحنات بأن يقبل المتشاحنون رؤوس بعضهم بعضاً، وكأن شيئاً لم يكن. كثيرون اعتبروا أنفسهم في الجانب المتضرر بصفة مباشرة من أفعال «الإخوان» وليس «البوب». وبدلاً من تعليقات الأمس الساخرة عن مدى معرفة «البوب» بثمن حزمة «الجرجير» أو عدد حبات الطماطم في القفص، تحولت اليوم إلى مدى معرفة «البوب» بثمن موت الابن وعدد من عذبوا وضربوا على أيدي الجماعة. ومع استمرار تنصيب العامة ل «البوب» في برج عاجي، سواء لعدم إلمامه بلوجيستيات حزمة الجرجير أو لعدم فهمه (بحسب ما يعتقدون) لما فعلته الجماعة بنفوس المصريين على امتداد عام مضى، يضاف إلى ذلك عامل آخر مهم، ألا وهو استقاء عامة الناس لما قاله «البوب» من مصادر معاد تدويرها، سواء من حيث الترجمة أو الصياغة أو العرض المعضد بالمواقف النارية الرافضة. الغالبية المطلقة من المصريين علمت بحديث البرادعي من برامج ال «توك شو» التي هاجت وماجت بأن البرادعي يدعو إلى مصالحة وطنية وعفو عن مرسي وإدماج للجماعة في صياغة الدستور والانتخابات البرلمانية المقبلة. والغالبية المطلقة تلقت الكلمات معضدة بضيوف قلبوا الدنيا رأساً على عقب بسبب «البوب المغيب» الذي يتعامل مع «البطة» بالشوكة والسكين ويتعامل مع «الإخوان» من منطلق حقوقي إنساني إدماجي تقبلي تصالحي لا يمت لما يحدث على أرض الواقع المصري بصلة. قلة قليلة بحثت ونبشت وقرأت الحديث، وفهمت أن كلمة Package التي قيلت في سياق رده على سؤال عما إذا كان يحب أن يرى عفواً عن الرئيس المعزول محمد مرسي في الاتهامات الموجهة إليه، لا تعني «صفقة» ذات أبعاد سرية أو غير أخلاقية أو تقايض الحقوق في مقابل المصالح، ولكنها قد تعني حزمة من الاتفاقات الوارد إبرامها في علم السياسة. وقلة قليلة فقط هي التي قرأت وفهمت كلماته ب «أنها (الاتهامات) لو لم تكن جادة أو خطيرة جداً، فإنه «يود» أن يرى عفواً ممكناً كجزء من «حزمة اتفاقات كبرى» لأن مصير الدولة أهم بكثير. ورغم ذلك فهناك بين هذه القلة القليلة من مال إلى آراء «البوب»، ومنهم من حاد عنها بعدما لسعته لدغات الجماعة المتعاقبة. وكاد «فايسبوك» يصدح بأصوات المتشاحنين المتعاركين المتناقضين في حلقات الأصدقاء والمعارف. هذه الحلقات كانت قد خضعت على مدار الأسابيع الماضية لعمليات تفجير لإزالة «الإخوان» ثم موجات تطهير ل «بلوك» المحبين للجماعة وأخيراً حملات إبلاغ لمحو ما تبقى من آثار لجماعة «أنا مش إخوان بس متعاطف معهم». ويجري حالياً خبط شديد ورزع أشد بين مؤيدي «البوب» ورافضيه. وبين «طول عمري أقول ان البرادعي عميل وها هو يثبت ذلك»، و «طول عمري أقول إن البرادعي عبقري وها هو يثبت ذلك»، يصول المصريون ويجولون في خلاف يكشف فداحة وجسامة ما فعلت الجماعة بمصر وشعبها على مدار عام مضى. ويكفي أن المصريين باتوا غير قادرين على التعاطف مع جموع البسطاء والفقراء الذين أتت بهم الجماعة وحلفاؤها للبحث عن سلطة ضائعة وسلطان مفقود. ويكفي أن آثار التعايش السلمي الوحيدة المتبقية الآن هي تلك التي تنبع من شاشة التلفزيون مع البث المتكرر لإعلان المياه الغازية المتسائل: «نرجع تاني واحد؟ ليه لأ؟».