كان لظهور التيارات والحركات الإسلامية في العالم العربي تأثيرات ضخمة في تاريخه الحديث والمعاصر استقطبت اهتمامات الباحثين ومراكز الدراسات، وبخاصة بعد 11 أيلول (سبتمبر) 2001 حيث شهدنا سيلاً من الكتابات حول الظاهرة الإسلامية. لكن على رغم ما كتب عن هذه الظاهرة قليلة هي الأعمال التي درستها بشكل شامل كحركات وتنظيمات سياسية. من هنا كان تصدي مركز دراسات الوحدة العربية في كتاب «الحركات الإسلامية في الوطن العربي» (مجلدان – 2013) لسد الثغرة المتمثلة في غياب قاعدة معلوماتية مرجعية عن تلك الحركات والتنظيمات، عبر مشروع بحثي موسوعي ضخم يرصد مختلف جوانب المشروع الحركي الإسلامي العربي بكل تجلياته ومظاهره وأشكاله منذ تفتحه مطلع القرن العشرين، متتبعاً تاريخ وظروف نشأة كل حركة إسلامية ومؤسسيها وهيكليتها التنظيمية ومؤسساتها الاجتماعية والتربوية، وخطابها الفكري والتعبوي، وموقفها من قضايا المواطنة، والتعددية والديموقراطية، ما يجعل هذا المشروع ينتمي إلى المساق السوسيوتاريخي – المعرفي. مستويان من المعالجة التحليلية والمنهجية اعتمدهما المشروع. تمثل الأول بتغليب المقاربة الدينامية للظاهرة الإسلامية ودراستها بعيداً عن الجانب الستاتيكي. وتمثل الثاني بتحرير الظاهرة من التنميط المسبق. يتألف هذا العمل البحثي من ثمانية فصول متكاملة تراعي المقاربتين التزامنية والتعاقبية معاً. وتخصص أقساماً متكاملة لدراسة الحركات والتنظيمات التي لها امتداداتها خارج حدود المراكز كالإخوان المسلمين، وحزب التحرير الإسلامي، وجماعة التبليغ والدعوة، وتنظيم القاعدة، كما تتبع خريطة انتشار هذه الحركات وامتداداتها في العالم العربي وخارجه بشكل مفصل. تظهر القراءة الأولية للحركات الإسلامية قدرة تكيفية متفاوتة للإسلاميين مع خصوصية البيئة السياسية التي يعملون فيها، وقد نجح بعض الفروع والامتدادات في التميز عن خط المؤسسين، منتجاً خطاباً سياسياً وفكرياً اكثر تلاؤماً مع البيئة التي يعمل فيها، فثمة تيارات كانت في صميم السلفية الجهادية أعلنت تخليها عن العنف. يراعي المشروع الخصوصية القطرية، إذ أن التشابه بين الحركات الإسلامية العربية لا يلغي خصوصية كل قطر، كما أنه لا يعني أيضاً عدم الربط بين عموم الظاهرة الإسلامية ككل. ومع الربيع العربي بات المشهد الإسلامي أكثر اتساعاً وأكثر دينامية حيث راوح بين التشدد الإقصائي والبراغماتية المصلحية، ويمثل الظهور السلفي أحد تجليات ذلك المشهد. تناول المشروع البحثي الإرهاصات التأسيسية للحركة الإسلامية، فتوقف عند المحاولات الأولى لحركة الإصلاح والتجديد التي افتتحت بحركة محمد بن عبد الوهاب 1703 – 1791 في نجد في القرن الثامن عشر، وبظهور السنوسية مع محمد بن علي السنوسي 1787 - 1859 ثم محمد بن أحمد المهدي والمهدية في السودان 1843 – 1885 وصولاً إلى تيار الإصلاح والنهضة مع رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا، ومشروع الجامعة الإسلامية. فضلاً عن ذلك يقدم هذا العمل الموسوعي، مدخلاً بالمفاهيم والمصطلحات الأكثر استخداماً في الخطاب الإسلامي، مسجلاً في ملحق أول أبرز وأهم الوقائع والأحداث ذات التأثير في الحراك الإسلامي السياسي باعتبار الحملة الفرنسية على مصر 1798 نقطة البداية، ومقدماً في ملحق ثان عرضاً لحوالى إحدى وتسعين شخصية من قيادات وفاعليات الحركات الإسلامية، ما يجعل من المشروع عملاً نوعياً جديداً على مستوى العالم العربي. واستحضر المشروع تراث النهضويين والإصلاحيين الإسلاميين في نقد السلطة الدينية، والاجتهاد، وعلاقة الديني بالسياسي والاجتماع المدني، ليستنتج التراجع الذي طاول الإصلاحية الإسلامية، وكانت ذروته الانفصال عن منظومة الفكر السياسي الحديث وموضوعة الدولة الوطنية التي أخذ بها الاصلاحيون منذ العقد الثالث من القرن التاسع عشر مع الطهطاوي وسواه. لقد كان ذلك التراجع انقلاباً شاملاً على الفكرة الإصلاحية، وكانت له الآثار البليغة في الانقضاض على تراثها. قطيعة مع الإصلاح ولا يختلف الباحثون اليوم على أن هذا الانقلاب هو الذي شرّع الأبواب أمام مشروع «الصحوة» الذي انطلق تياره مع مرشد الإخوان المسلمين الشيخ حسن البنا في عشرينات القرن الماضي. ومع هذا المشروع خفت مشروع الإصلاح الديني، الأمر الذي شكل مقدمة لفكر القطيعة مع الإصلاحيين الإسلاميين، وهو ما سوف ينضج على يدي الجيل الثاني للإخوان – سيد قطب وشقيقه محمد. ولقد كانت مقالة «الحاكمية» ذروة التعبير عن هذه القطيعة التي بعد أن أودت بفكرة الدولة الوطنية والمدنية، ولدت ثقافة التكفير والعنف وفكرة الجهاد. ان بذور الحركة الإسلامية المعاصرة بكل اتجاهاتها وتياراتها، ليست في رأي الكتاب، إلا استئنافاً، بكيفيات مختلفة لتلك الحقبة من الفكر العربي الحديث. ففي صفوف الإسلاميين اليوم من يتبنى تراث الإصلاحيين الأوائل، وبينهم السلفيون الوهابيون، وبينهم من يزاوج السلفية الوهابية مع الفكر القطبي الإخواني ليعيد إنتاجها على شكل السلفية الجهادية المقاتلة. نرى ختاماً أن الكتاب يشكل مرجعاً أساسياً لا بد منه في دراسة الحركات الإسلامية العربية، وبخاصة في زمن التحولات السياسية الراهنة.