بكلمات وثيقة الصلة بالعوالم المسرودة يرسم عبدالله بن بخيت سوداوية ذلك العالم السفلي وغرائبية نظام علاقاته الصادمة، ويتجاوز ببراعة فنية السمة الوهمية للتعارضات، فهؤلاء الذين يمتهنون جسد (ناصر/فحيج) هم الذين يواسونه في وفاة والدته التي ماتت في التاسعة والستين، وهو بالنسبة لأولئك المقهورين «عمر مديد على إنسان تجنّبته السعادة كثيراً». وهم أيضاً الذين يشتركون معه في انتهاك أجساد البغايا، وصرف أعمارهم في الهباء، فهذا هو منطق ذلك الفضاء المطمور تحت وابل من الشطحات السريالية، وهذا هو شكل منظومة العلاقات القائمة على تمرير الحياة كيفما اتفق لتلك المثقلة باليومي، إذ لا عقل يمكن أن يغير من واقع بؤسهم، ولا ضمير يمكن أن يرفع ذواتهم المنهكة إلى مرتبة أعلى، فما يحدث في الواقع لم يعانده بأي اختلاقات أو تدابير سردية تزييفية. هنا يكمن أيضاً سر تمجيد الأمهات في الرواية، على أساس كونهن العاصم لذواتهم، حيث تكمن علاقة أولئك الرجال المهزومين بملاذاتهم الأمومية، فالرواية تتموضع على المستوى الإنساني في مهاد أمومي على درجة من الحنان. أم (فحيج) مثلاً تسامحه على كل موبقاته، وتسامره بمنتهى الحب كما يتنادم الأحبة «كانت تقص عليه القصص بشكل متقطع، وفي أوقات متفرقة. لا تهدف من ورائها إلى إجباره أو تعليمه. كانت تتحدث معه وتتحدث مع نفسها». أما (شنغافة) فيغادر بيت العبيد بعد وفاة أمه الروحية (حسينة) التي بكاها بحرقة بعد أن تضاعف إحساسه باليتم والنبذ. وأم (سعندي) تعيش ملحمة الإبقاء على أسرة مبتلاة بالأحزان والحرمانات، ولا تملك من السعادة إلا اسم ابنها وابنتها، حيث تستعطف الأميرة لترسله إلى لندن برفقة أحد أقاربها، وتستبسل حتى آخر رمق لتنقذه من موت محقق. أجل، الموت الذي اختطفهم جميعاً ليعلن نهاية حقبة أو فئة بشرية لا تمتلك المناعة المادية والمعنوية لصد القبح، لتتأكد الحقيقة الوجودية بإمكان موت الجماعة، بالإيقاع ذاته الذي يتفسخ به الفرد. إذاً، هي رواية محقّبة بالميتات، ومؤطرة بموت أكبر، حيث يبدو الموت هو الآلية الوحيدة لقياس ذلك الزمن الداكن، أو هو التقنية السردية لإبراز مكنون الشخصيات وتعرجاتها النفسية، حيث تتجاوز الدلالة الوظيفية لكثرة الميتات سمة الوقائع اليومية إلى مستوى العلامات بمعناها السيميائي، بما يحمله كل موت من مفارقات، فما بين موت (سعندي) الذي تنتهي على إيقاعه الرواية وبين موت (أم ناصر) الذي تفتتح به الرواية، متوالية من الميتات المتنوعة (سويلم... محسن ابن يوسف... ابن شويب. شنغافة. حسينة. بنت مستورة. مسعود بن جمرة) وكأن الموت هو الطقس الذي يتحرك على أديمه السرد، حيث تتسع المسافة بين الشخصيات وامتهان الكذب والتحذلق كلما اقتربت تلك الذوات المقهورة من الموت. مع ملاحظة أن الموت لا يبدو مرعباً لشريحة من المشردين الذين يتخذون من المقبرة مكاناً لنزواتهم ولهوهم وتداول الممنوعات والمحرمات وتنفيذ مخططاتهم الجنسية، فالتمفصلات الطوبوغرافية والدلالية لذلك الفضاء لا تعلنه مكاناً للوحشة والرعب بقدر ما يُستعرض كحاضن لإتلاف الذات المبرمج، أي كقاعدة للعطالة والممارسات المشبوهة، كما يفصح النمو النفسي والروحي لمعظم الشخصيات عن اتجاه للتسافل والسقوط واستمراء قدرية الغياب عن مسرح الحياة، من دون إبداء أي مقاومة، لدرجة أن اللحظة تلك تنغلق بهم وعليهم، إذ لم يخرج من تلك الفئة أو الحارة أو اللحظة من حقق اختراقاً اجتماعياً بأي معنى من المعاني. الاهتراء الذي يبدو عليه أولئك الهامشيون لا يعني أنهم بمعزل عن القيم التي تنبت أحياناً كالألغام أمام ذواتهم المستهترة الداعرة، وكأنها تذكّرهم بالمنسي من آدميتهم، كما يأبى (شنغافة) بنبالة العاشق وفروسيته اختلاط أموال حبيبته الأرملة بأمواله المكتسبة من بيع الخمور، وكما يتهيب أيضاً أن يعاشرها في سرير زوجها. وفي شاعرية هذا التناقض بالتحديد يكمن أيضاً سر اللغة الآسرة التي رسمت بموجبها شخصيته الجاذبة، كما يتبين من الطريقة التي تم التعبير بها عن طياته الشعورية وألياف شخصيته اللامرئية، حين أفصح عنها في مواجهته اللامتكافئة مع الأمير، حيث كان «كلاهما يريد أن يستريح من التواضع الذي فرض حضوره بينهما». بما تحتمه الرواية من دور بطولي - دون كيشوتي - يفارق ما يحدث على أرض الواقع. وكذلك بمجرد أن ارتطم كيانه المهزوم بمن يستفز آدميته المسروقة، أي عند احتضانه (معدية) والبكاء معها ومن أجلهما «لا يتذكر أن أحداً بكى من أجله أو عليه. هذه الدموع هي الأولى التي تذرف في سبيله. سحبها بهدوء وأعادها إلى الفراش وضمها إلى قلبه ودفن رأسها في صدره العاري، وبكى بصمت حتى لا تسمعه. ولكن قطرات الدموع المنحدرة من عينيه تساقطت على جبهتها فرفعت رأسها وشاهدته يبكي. اقتربت من خديه وأخرجت لسانها وطفقت تلحس دموعه وتبتلعها. فانخرطا في البكاء بصوت مسموع ومن دون تحفظ». بلغة حنونة ومتوحشة في آن يغوص عبدالله بن بخيت في شخصياته وبها، إلى أبعد نقطة في القاع الاجتماعي، لتعفيرهم بروح المكان، ونحت ملامحهم المادية والروحية في مضائق اللحظة. إذ لم يسلم (فحيج/ناصر) من وطآت جسدية ونفسية مذلّة، حتى من قبل (شنغافة) العبد الذي كان «يُسرق، ويجلب، ويباع» وكأن الأذى النفسي يمكن أن يُحدث أثراً أكبر، أو يبلغ أوجه المعذّب حين تستشعر الضحية أن مصدره ضحية أكثر بؤساً، أو أقل مرتبة من الوجهة الاجتماعية، كما يتأكد هذا الهاجس النفسي إثر خضوعه أيضاً لرغبة صديق طفولته (سعندي). وبهذا يضاعف من إحساسه بالامتهان، مع غياب أي رادع أخلاقي، وفي ظل غياب أي إمكانية لوقاية الذات من طيش الآخرين ونزواتهم، وكأنه أراد أن يتهاوى ببطله إلى ما تحت التحت، ليجعله بمثابة القربان الذي تقرر الجماعة التضحية به باعتباره السبب الغامض لآثامهم ومآسيهم، أو هذا ما تشي به مسالك بعض الشخصيات ناحيته، فهو شخصية إشكالية بالمعنى اللوكاتشي، يؤلف بحثها العبثي المنحط عن قيم أصيلة مضمون النص الروائي. وهكذا تتصاعد اللغة بشكل لافت، عندما يكون حديث الشخصيات من دواخلها، أو عن منازعها الحسّية. كما يتمثل هذا الأداء المؤثر، الذي ينم عن دراية موضوعية وقدرة فنية على رسم الملامح البرانية للشخصيات وما تختزنه من طاقة نفسية وتأثيرية جوانية، إذ يتبين هذا الفائض في دلالات شخصية (فطيس) التي تتمتع بكثافة سيكولوجية تتجاوز رغبته المعلنة في التهتك والخلاعة والمجاسدة المثلية إلى البوهيمية وموت الضمير وإشاعة حس الابتذال، فقد رسمها بدقة تدلل على كفاءة في توصيف الكائن الحسّي المهووس بفكرة الاتصال الجنسي، المسكون بشرٍ أنطولوجي لدرجة تجسيده في بورتريه لغوي فاتن «حنطي اللون، طويل القامة على قدر من النعومة. يتمتع بعينين ناعستين لا تشيان بالعنف والكراهية. ساهمت هاتان العينان في خداع كثير من الأطفال. عيبه الإفراط في الخساسة وميله الفطري إلى الشذوذ. يتضافر هذان العاملان في روحه كأنهما شيء واحد». * كاتب وناقد.