بعد عامين ونصف العام من الجحيم، تحولت سورية إلى بلد عجائب، فما يعيشه السوريون ليس مفرط القسوة فقط، بل مفرط الغرابة، لدرجة يعجز أي خيال عن ابتكار ما يحصل، وأحب أن أشهد على تلك الملاحم البشرية، التي أخشى أن تضيع بسبب كثافة العنف واستمراره، وبسبب لامبالاة الجميع. لا يخلو بيت سوري من مأساة، أو مشروع مأساة، وقد تشكلت لدي قناعة بأنني كل يوم على موعد مع سوريين طفح بهم الكيل من الصبر والقهر لكن لا يملكون حلاً لمصابهم. والتقيت رجلاً في الخمسين من عمره يشع وجهه وداعة الهزيمة، صرتُ أميز تلك الملامح المرتسمة على وجوه السوريين: هدوء أقرب إلى الذهول، نظرة سارحة في المجهول المُخيف، كما لو أن السوري صار يشك في أنه على قيد الحياة. التقيت أبو هيثم، رجل وديع من الغنيمية (قرية على طريق حلب) كان يعيش في بيت جميل وبسيط ولديه ثلاثة أولاد أكبرهم هيثم-19 سنة- الذي كان يخدم في الجندية، ومنذ الأشهر الأولى للثورة استشهد هيثم في جبل الزاوية، وتحول إلى «الشهيد البطل» ووالده إلى «والد الشهيد»، وأمه إلى «أم الشهيد»، وإخوته إلى «إخوة الشهيد»، حكى لي أبو هيثم أن الدولة دفعت له حوالى مليون ليرة سورية كتعويض عن استشهاد ابنه، غص وهو يتكلم ولم يستطع أن يواجه نظرتي. قال كأنه يحدث نفسه : كأن للإنسان ثمناً والله مال الدنيا لا يعوضني عن حبيب قلبي، ولأنه رجل بسيط فقد ذل لسانه وقال للمقربين إنه خبأ المليون ليرة تحت بلاطة في المطبخ، وبعد أيام اكتشف أن ثمن الشهيد، أي المليون ليرة قد سُرقت، في تلك الفترة كانت المعارك محتدمة في محيط قرية الغنيمية، بل أصابتها قذائف كثيرة وصواريخ وهرب العديد من أسرها، واحترق البستان الذي كان أبو هيثم يزرع فيه الخضار والفاكهة ويعيش من بيع محصوله. حزر أبو هيثم من سرقه ولحسن حظه فإن السارق اعترف أنه سرق المليون ليرة، وبما أن الفوضى في عصرها الذهبي في سوريا، والمواطن يشعر أنه مُهمل ولا أحد يبالي به فالكل مشغول بمعركة الحسم، فقد نصح البعض أبو هيثم أن يلجأ إلى محكمة دينية شرعية يترأسها أمير –ليس سورياً– بل على الأغلب مغربي، كما خمن أبو هيثم، وعُقدت المحكمة الشرعية وتواجه المسروق مع السارق منتظرين حكم الأمير الذي قضى –ويا للتشويق الدرامي!- بأن على اللص أن يُعيد فقط ربع المبلغ إلى أبو هيثم، لأن المال الذي دُفع للأب المفجوع هو مال الدولة! ووفق المحكمة الخُلبية إياها هو مال حرام !كنت أصغي مذهولة لقصة أبو هيثم وأنا أكرر كببغاء بيني وبين نفسي: هذا ما يحصل في سورية، وسألت أبو هيثم : هل رضيت بالحكم؟ فابتسم بمرارة وقال: شو طالع بيدي! عبارة تلخص حال المواطن السوري الذي لا يشعر بمواطنته أبداً والذي يستسلم لكل ما يصيبه لأنه عارف سلفاً أن لا أحد يبالي به، قال لي: صدقيني لم أحزن كثيراً لخسارة المال، بل على العكس أحياناً، أشعر أن روح هيثم ستتألم حين يعرف أنه يساوي كذا ليرة، ابن التسعة عشر عاماً مات! كان يهز رأسه مُروعاً من مصابه الذي تكلل بتهدم بيته ونزوحه إلى اللاذقية وانتظاره المعونات الإنسانية، وأظن أن كلمة إنسانية صار لها معنى آخر في سوريا، إذ تعني أن لا أحد يأنس للآخر، كان رجلاً مُحطماً كملايين السوريين، مات ابنه ودُمر بيته واحترق بستانه مصدر رزقه ولا يزال قادراً على المشي! وحين سألته لِمَ لم يلجأ إلى المحكمة ليشكو الأمير إياه والمحكمة الشرعية التي... شهق ولم يتركني أكمل، وقال بما يُشبه الصراخ: ماذا تقولين، «ولك أنا بخاف من النظام ومن المعارضة، من المحكمة الشرعية وغير الشرعية»، ولم أفهم تماماً ما أراد أن يقول، لكن عبارته التي انفلتت منه بعفوية آسرة -أنا بخاف من النظام ومن المعارضة– انحفرت في ذهني، وأشعرتني بانقشاع غلالة عن عقلي، إذ إن الحقيقة كل الحقيقة، هي في تلك العبارة البسيطة البليغة والمُذهلة بصدقها التي قالها أبو هيثم. للأسف هذه حال كل السوريين من دون استثناء، سواء كانوا موالين أم معارضين أو يعيشون تحت كارثة لا ترحمهم. من منهم لا يخشى الاعتقال! من لا يخشى من كاتب التقارير! من لا تتقصف فرائصه رعباً كلما أراد أن يسافر واقترب من الحدود وكاد قلبه يتوقف من الذعر إن طال تحديق الضابط بهويته أو جواز سفره! من يجرؤ أن يتحدث عن انتهاكات العديد من المسؤولين وأبنائهم وأحفادهم (الجيل الثالث) اللذين يذلون الناس علناً في الشوارع لمجرد الانتشاء بالسلطة والمتعة السادية ولا يوجد من يحاسبهم، وهم يتباهون أنهم من رموز النظام ومحسوبون عليه. كيف أنسى حين كنت في السنة الثانية في دراسة الطب حين أرسل في طلبي عميد الكلية وقال أن أحد زملائي في اتحاد الطلبة كتب بي تقريراً كالتالي: بورجوازية متعالية، متعاطفة مع أحزاب يسارية! وبأنه لولا الزمالة التي تربطه بأبي لكان هذا التقرير بمنتهى الخطورة! ومن لا يرتعب اليوم من انتقاد المعارضة، خصوصاً المعارضة المستميتة للتسلح والتي تتكلم نيابة عن المواطن السوري وتطالبه بنزف آخر قطرة من دمه! بينما دماؤهم مُصانة في الفضائيات وعواصم الدول التي تمول المحاكم الإجرامية، والتي يسمونها شرعية وتسرق ثمن دم الشهيد! من يجرؤ أن ينتقد تلك المعارضة التي منعت النساء من التبرج وأجبرتهن على ارتداء الحجاب حتى لو كن مسيحيات. تربطني صداقة مع أحد أكثر المعارضين صدقاً ووطنيةً، وقد اعترف لي أنه لم يجرؤ أن يُعزي جيرانه بوفاة ابنهم الضابط الشاب الذي استشهد في القصير لأنه يخاف من زملائه المُعارضين! الذين سيخونونه بأنه يُعزي بضابط موال للنظام. سبحان الله كيف تغيب المشاعر الإنسانية !كيف لا يُعزي جار بجاره! كيف يمكن شاعراً وصحافياً في الوقت ذاته، ومعارضاً شرساً لجأ إلى أميركا وأنشأ موقعاً على ال «فايسبوك» وغيره من مواقع التواصل الاجتماعي، موقعاً لبث السموم وتخوين فلان وعلان، كيف يمكنه أن ينشر صورة أم ثكلى مات ابنها في معركة القصير ويقول بالحرف الواحد: هذه ليست أماً بل حيوانة، لأنها أرضعت ابنها حليب الإرهاب، ولأنها دفعته ليحارب مع النظام ضد المعارضة الثورية. مهما كان رأي الشاعر إياه، كيف بإمكانه أن يشمت ويتلذذ بمصاب أم ثكلى ويقول عنها حيوانة... إلخ، ومن يجرؤ وينتقده يخوِّنه للتو ويصفه بأقبح الصفات، إن حال السوريين ليس مُخزياً فقط، بل إن إصرار الجميع على إطالة أمد الصراع وإنهاك مواطن ليس شمشون الجبار، ولا هرقل، وليس بسبع أرواح، إن إطالة أمد الصراع سيدمر المنطق السليم والحس الإنساني، والتعاطف والمشاركة التي هي أسس بناء مجتمع سليم . أخشى أن يصبح الجنون هو علامة الحياة في سورية، وإننا مُطالبون كل يوم بحل لغز الحياة السورية التي تفوقت على ملاحم الأدب والتاريخ بمأسويتها. شكراً أبو هيثم لأنك أضأت عقلي بمنتهى الصدق والبساطة: كل سوري يخاف من النظام والمعارضة . يحيا الخوف المزدوج!! يا للعار. * كاتبة سورية