صدحت مساجد مصر وميادينها الاعتصامية وطرقاتها الاحتجاجية وشوارعها التظاهرية بدعاء تكرر عشرات المرات أمس. «اللهم إن أرادوا سوءاً لمصرنا، فشتت شملهم، وفرق جمعهم، ورد كيدهم في نحورهم، وأجعل دائرة السوء عليهم». وارتفعت أيادي المصلين إلى السماء مرددين بأصوات هادرة «آمين». جاء الدعاء لمصر من القلب، وكان التضرع إلى الله بتشتيت شمل الأشرار ودحض الخونة بكل الحواس، إلا أن الدعاء الصادر من ميدان التحرير وأمام قصر الاتحادية وشركائهما كان موجهاً ضد الأشرار والخونة أمام مسجد رابعة العدوبة وأمام تمثال نهضة مصر وأتباعهما، والعكس صحيح. إنها «جمعة الفرقان» التي تفرق بين الحق والباطل، حق عودة الدكتور محمد مرسي إلى القصر، وتحديداً يوم الأحد الذي تم توصيفه «إخوانياً» ب «أحد المرحمة» رغم أنف باطل «الانقلابيين القافزين على الشرعية والشريعة». لكنه أيضاً «جمعة تفويض الجيش» التي تعلي كلمة الحق على الباطل، حق الشعب في حفظ هويته وحماية حدوده وتأمين أبنائه رغم أنف باطل «المتأسلمين الملتحفين بالشرعية والشريعة والطائفية البغيضة». لم يحدث من قبل أن تم استحضار روح نسبية ألبرت أينشتاين كيوم أمس في ميادين مصر وشوارعها، حيث ما بدا باطلاً في «رابعة» كان عين الحق في «التحرير»، وما افترض حقاً في «النهضة» كان صميم الباطل في «الاتحادية». ومن رفعت صوره وقبل جبينه وهتف بحياته في «التحرير» كللته «رابعة» بعلامة «إكس» حمراء رافضة كارهة له وذيلت سيرته بعبارات السباب وهتافات المعاداة. ومن احتضنت لافتاته وذرف الدمع عرفاناً بإنجازاته في «النهضة» لطم وجهه في «الاتحادية» بالكفوف وضرب كتيب إنجازاته بالأحذية وتمنى له الجمع الحاشد أن يذهب مصحوباً باللعنات. لعنة ميادين «الحق» وشوارع «الباطل» في مصر تقلق الغالبية العظمى من المصريين، باستثناء أولئك الذين يعتقدون أنهم وحدهم من يملكون الحق والحقيقة باعتبارهم يحملون تفويضاً إلهياً أو صكاً دينياً بذلك. لكن زمن الصكوك انتهى وبدأ عصر الحقوق التي يتم انتزاعها، فحين يصرخ مشايخ رابعة العدوية مؤكدين أن داعمي الانقلاب على مرسي ما هم إلا «كفار وزنادقة وصليبيون»، تصرخ سيدة بسيطة ترتدي الخمار وتمسك سجادة صلاة في طريقها إلى المسجد «كذابين في أصل وشهم». وحين تباغت مجموعة من أنصار الدكتور مرسي مسيرة شعبية في حي شبرا الشعبي المعروف بأنه معقل التعايش التاريخي بين مسلمي مصر ومسيحييها منذ عقود طويلة، ويهتفون في وجوههم «شبرا علمانية»، فإن أهل شبرا بمسلميهم ومسيحييهم يردون عليهم بما تيسر من ردود. وحين تكرر اللجان الإلكترونية «الإخوانية» نشر رسائل الشكر لسكان «رابعة» الكرام على تحملهم عناء الاعتصام بكل الحب والود وبث تدوينات العرفان على إصرار السكان الشرفاء على إعلان «تأييدهم للشرعية والشريعة»، فإن سكان «رابعة» ينتفضون على صفحتهم على «فايسبوك» معلنين كذب دعمهم الرئيس الطائفي وتكرار مطالبتهم المحتلين النائمين في مداخل عماراتهم بالرحيل ورفع ندائهم لأهل مصر بالدعاء لمصر وسكان «رابعة العدوية» على وجه الخصوص بفك الكرب «الإخواني» وزوال «الغمة الإرهابية المتأسلمة». وتستمر عملية انتزاع الحقوق نهاراً جهاراً. السيدة العائدة إلى بيتها في مربع «رابعة» ضاقت ذرعاً بالتضييق عليها وعلى أسرتها من قبل المعتصمين المقيمين ولجانهم الشعبية التي تفتش السكان، فجاهرت بغضبها وضيقها، فما كان من أحد أنصار «الشرعية والشريعة» إلا القول إن «سكان رابعة كلهم فلول أصلاً»، فسألته متعجبة: «وأنت جاي تعمل إيه تحت بيت الفلول؟». بيوت «الفلول» ومحلات أنصار «الثورة المضادة» ومعاقل «البلطجية» وتجمعات «الصليبيين» ومقاهي «الانقلابيين» ومطاعم «العلمانيين» وأكشاك «الليبراليين» ومحطات «الصهيو-ليبراليين» شهدت يوماً حافلاً في مواجهة أنصار «الشرعية والشريعة» الذين يحبون الموت والشهادة كما يحب الليبراليون الحياة. وبينما تتساءل المطربة شيرين بعلو الصوت: «طب ماشربتش من نيلها؟» وتبث زميلتها نانسي عجرم مشاعر النوستالجيا التي تعصف بها قائلة: «واحشاني يامصر موت» وتعيد الفنانة المعتزلة شادية مشاعرها مجدداً: «ياحبيبتي يامصر» في أرجاء التحرير والاتحادية مفجرين حماسة الجماهير وتصفيق الفتيات وغناء الجميع، كان مشايخ «رابعة» يصرخون «البلد دي بلدناااا والشهداء دول إخواتناااا والشرعية دي شرعيتناااا»، فيكبر المكبرون «الله أكبر». ويحاول بعضهم تلطيف حدة الهتاف فيصرخ: «أنت رئيسي ماحدش تاني وباحس معاك إحساس إنساني»، فيهلل الجمع الحاشد وراءه مؤكداً على صدقية الإحساس الإنساني. لكن لا يكدر تكبير المكبرين وصراخ الصارخين وإحساس الحساسين سوى أصوات خبيثة يبثها بعض الأشرار من سكان مربع «الشرعية والشريعة» تصدح بأنشودة «تسلم الأيادي» التي تتغنى بحب الجيش وتحفل بالغزل الصريح للفريق أول عبدالفتاح السيسي. الفريق السيسي والدكتور مرسي حظيا على مدار اليوم بكم هائل من القبلات والركلات، والسلامات واللعنات. صارت المشاعر واضحة لا ريب فيها. وخرجت تسميات «الخرفان» من صمت «فايسبوك» و «تويتر» إلى فضاء ميادين تفويض الجيش، وصدحت نعوت العلمانية و «الكفر والزندقة» في سماء ميادين «الشرعية والشريعة». حتى لحظة الإفطار التي أذن فيه المؤذنون لصلاة المغرب ودقت معها أجراس الكنائس إيذانا بإفطار المسيحيين بعد يوم صيام من أجل مصر وتفويض جيشها لزوال غمتها استقبلتها ميادين السيسي بالحب والمودة وتلقفتها ميادين مرسي باتهامات العمالة وتشويهات الكفر. ولم تتبق سوى الطائرات المحلقة في سماء مصر، لتبث مشاعر الطمأنينة وتفجر أحاسيس الامتنان بين من فوضوا السيسي «لمحاربة الإرهاب المحتمل»، وتزرع مشاعر القلق لدى من فوضوا مشايخهم لمحاربة بقية المصريين وتفجر أحاسيس عكس تلك التي يفجرها لديهم أول رئيس مدني منتخب أتى بصندوق الانتخاب وعزل بانقلاب الشعب. كانت جمعة «إسقاط الانقلاب» لو كان الآتي من «رابعة» أو جمعة «تثبيت الانقلاب» لو كنت قادماً من «التحرير»، وهي «مليونية الفرقان» بالنسبة إلى أولئك المرابطين في «النهضة»، و «مليونية لا للإرهاب» بالنسبة إلى أولئك الرابضين في «الاتحادية»، لكنها مجرد بداية لطريق طويل يتوقع أن تعتريه صعوبات وعقبات، وتظل العقبة الأكبر هي إصلاح شرخ انقسام الوطن وترميم الفجوة بين «المصريين» و»الإسلاميين».