إماطة اللثام عن حادثة اغتيال أبي بصير الجبلاوي «نسبة إلى مدينة جبلة السورية» الأسبوع الماضي، أجلت بوضوح التباين العقدي والفكري بين أطياف الشعب السوري، وما آلت إليه سيرورة الثورة السورية، إذ فسططت تلك الحادثة الشعب إلى فسطاطين: فريق ينادي بدولة إسلامية، وآخر ينادي بدولة علمانية، وكشفت تلك الحادثة أيضاً عن مآرب وغائيات الغرب في السماح بتسليح جهة، سمّتها معارضة معتدلة، مقابل امتناعها عن تسليح جهة أخرى سمّتها «الأيادي الخطأ»؛ كانت حقيقة الأمر أن يقتتل ذانك الطرفين؛ ما يمكن النظام من اهتبال هذه الفرصة الثمينة، وتكون مدعاة لإجهاض الثورة. قبل شهر اجتمع اللواء سليم إدريس مع بعض قادة كتائب المعارضة المسلحة، وطلب منهم الانضواء تحت هيئة الأركان التي يترأسها، وهدد بمحاربة كل من سيرفض، بعده بدأ الصراع بين صفوف المعارضة المسلحة يطفو على السطح، كان آخره حين طلب الشهيد أبو بصير من عناصر تابعين لدول العراق والشام الإسلامية أن يُنزلوا العلم الأسود من سارية مركزهم، ويرفعوا علم الثورة بدلاً منه. فاستمهلوه ساعتين لكي يأتي أميرهم أبو أيمن الرقاوي «نسبة إلى مدينة الرقة»، وحين قدم أبو أيمن حصلت مشادة كلامية بين الاثنين، فحواها أن أبا أيمن رفض تنكيس العلم، لأنه يحمل شعار التوحيد (لا إله إلا الله)، في المقابل أصر أبو بصير بأنه يريد سورية دولة علمانية وعلمها علم الثورة. إلى أن وصلت الأمور إلى مقتل أبي بصير. مهما يكن من أمر، فرأيا القاتل والمقتول كان لب الصراع بين أطياف المعارضة نفسها، إذ يندرج تحت هذين الرأيين «إسلامية، علمانية» رايات معظم الأحزاب، والحركات، والتيارات الدينية، والعلمانية، والقومية، بما تحمله من آيديولوجياتهم. يقول المجاهدون المرابطون في الثغور: إن الثورة السورية أخذت الصبغة الإسلامية السُّنِّيَّة في معظم مناحيها منذ بدايتها، وإن محاولة الغمز واللمز للمجتمع الدولي بأن من قام بالثورة السورية هم شرائح المجتمع السوري كله، بأديانه وطوائفه ومذاهبه، ممن ينتمون للعلمانية، هو إجحاف وغبن بحقهم، وأنه على رغم مضي 30 شهراً على بداية الثورة فإنهم لم يروا كتائب مسلحة علمانية تقاتل ضد النظام، وإن تجييش وتدريب بضع مئات من الضباط والجنود المنشقين بعد مرور كل هذا الوقت الطويل من عمر الثورة لا يمنحهم الحق بأن يفرضوا، منفردين، شكل الدولة. لا مشاحة في القول: إن معظم العمليات النوعية البطولية التي قامت بها جبهة النصرة قصمت ظهر النظام السوري، علاوة على أن معظم الضباط والجنود الذين انشقوا في بداية الثورة فروا إلى الخارج، كان شباب الجبهة يحتلون مواقع ومطارات النظام، ثم يستدعون بعض ضباط الجيش الحر الذين بقوا في الداخل ليخرجوا على القنوات الفضائية، ليصرحوا بأنهم هم من قام بتلك العمليات؛ لأن جماعة الجبهة لا تحب الظهور الإعلامي. النقطة المفصلية المهمة التي يجب الوقوف عندها، والسؤال الشرعي الذي يجب أن يطرح: هل اعتراض العلمانيين على اسم الدولة، أم على منهج التطبيق؟ فإذا كان مفهوم مصطلح دولة الخلافة يرعبهم، فيمكن استبدال مصطلح دولة إسلامية به، أم أن الإشكالية عندهم كرههم للإسلام في حد ذاته؟ إن من الأهمية بمكان التفريق بين مفاهيم عدة، مثل: دولة الخلافة، ودولة دينية، ودولة إسلامية. وهذه الأخيرة هي التي يجب التركيز عليها، أي أنه ممكن أن تكون الدولة إسلامية تؤسس جميع الأمور القانونية فيها على أساس التشريع الإسلامي ذات الغالبية، وفي الوقت ذاته هي دولة مدنية متحضرة. ويمكننا أيضاً تعريف الدولة المدنية الإسلامية بأنها نظام حكم سياسي حضاري ذو مرجعية دينية، يقوم على مفهوم المواطنة بين أفراد الإقليم بأن يكونوا سواسية في الحقوق والواجبات، فالإسلام لا يعارض الديموقراطية البتة، وأهم مبدأ فيه هو الشورى. الدولة المدنية الإسلامية ليست دولة ثيوقراطية بالمفهوم الغربي، فالحاكم بالإسلام ليس إلا خادماً للأمة يحق لها مساءلته، بل عزله حين يصرح بالكفر، أو وقت ظلمه، وهذا ما قرره الشرع، والحاكم تختاره الأمة بما سماه الفقهاء البيعة، بعد موافقة أهل الحل والعقد، ولا يحق له أبداً إقرار أي قانون يحل حراماً أو يحرم حلالاً، كل ذلك من الأصول الإسلامية المقررة للحاكم، ولا اعتبار له إن كان ملكاً أو رئيساً أو ذا سلطة دائمة أو مقيدة بزمن، فهذه الآليات لم يتدخل الإسلام فيها، ووكل أمرها إلى ما يختاره الناس من خير لهم. ثم إنه لا يمكن قيام أي دولة لا يكون للشعب فيها أية مرجعية دينية، بل إن قوانين الأحوال الشخصية في معظم دساتير العالم المتقدم، مثل الطلاق، والزواج، والإرث وغيرها تستند استنادا كلياً إلى التشريعات السماوية، ولا يمكن بأي حال من الأحوال فصل الدين عن الدولة، فخلال 14 قرناً كانت الحضارة الإسلامية من شرقها إلى غربها قرينة الإثبات بأن منهج الدولة الإسلامية هو من أفضل مناهج الحكم على مر العصور، والمنهج الإلهي في الحكم شمولي لا يقبل التبعيض، ومن يطلع على بنود وثيقة المدينةالمنورة المشهورة، لا يشك لحظة في أن الإسلام دين ودولة. ولو نحينا جانباً هذا السياق المفاهيمي الذي أفرز تلك المعضلات، وطرحنا الناحية المبدئية للعلمانية، التي تقول بفصل الدين عن الدولة، هذا يقودنا إلى حقيقة مهمة للغاية هي أنه يمكننا نقض هذه النظرية بالقول: إن الدولة الإسلامية يمكنها أن تحتوي جميع الحركات العلمانية تحت ظلها، ولكن على النقيض من ذلك فإن الدولة العلمانية متشبعة بالروح الإقصائية، ولا تقبل بالحركات الإسلامية تحت ظلها، حتى ولو احتكم الطرفان إلى صناديق الانتخابات ونجح الأكثرية السنة، فإن العلمانيين إذا قبلوا بالنتائج، فعلى الأرجح الغرب لن يقبل بها. قصارى القول: للتخلص من الحال المستنقعية والديالكتيكية، التي أركس الشعب نفسه فيها، يمكن التلفيق في أن يكون نظام الحكم في سورية دولة مدنية إسلامية، دين رئيس الدولة الإسلام، ومرجعية التشريع فيها الإسلام، يعيش تحت سقف هذه الدولة مواطنو الدولة، ويتساوى الجميع في الحقوق والواجبات، ويكفل الحريات الشخصية للجميع، وعلمها هو علم الثورة مدون، في وسطه «لا إله إلا الله محمد رسول الله». * باحث في الشؤون الإسلامية.