تشكلت إذاً حكومة مصرية برئاسة الخبير الاقتصادي حازم الببلاوي، وأدت اليمين أمام الرئيس الموقت عدلي منصور. ومع أنها تضم أكثر من ثلاثين وزيراً يغلب عليهم الطابع التكنوقراطي، فإن قوى المعارضة السابقة والمناهضة لحكم «الإخوان المسلمين» تمثلت بعدد من الوزراء. ويبدو أنها ضمت كذلك وزراء محترفين، تنقلوا في الحكومات الانتقالية منذ خلع حسني مبارك، ومنهم من كان في عهده ومقرباً من نجله جمال، كحال وزير المال. وهناك أربعة وزراء سابقين مثّلوا على الأرجح حصة المؤسسة العسكرية في حكومة «الإخواني» هشام قنديل الملغاة بعد عزل محمد مرسي واحتجازه احترازياً، كما قال وزير الدفاع، النائب الأول لرئيس الحكومة الجديدة عبدالفتاح السيسي للإعلام ولنائب وزير الخارجية الأميركي وليام بيرنز خلال زيارته مصر قبل بضعة أيام. في الوقت ذاته تحدثت الأنباء عن سقوط سبعة قتلى وعشرات الجرحى في مواجهات بين أنصار مرسي ومعارضيه. بل أشار بعض التقارير إلى محاصرة مئات من أنصار مرسي داخل مسجد التجأوا إليه فيما طالبهم «أهالي الأزبكية» الذين حاصروهم بإخلاء المسجد. هذا غيض من فيض، وضع مصري ما كان مؤرخ كالجبرتي ليتردد في وصفه بلغة السجع البلاغية بعجائب الآثار في التراجم والأخبار. والحال أن الوضع الانقلابي الذي تتخبط فيه مصر يبدو غريباً بما يتطلب من أصحاب الوصفات والتحليلات الجاهزة أن يظهروا مقداراً أكبر من التروي، والتخفف من الترسيمات المعهودة وأحكامها القيمية. وقد يخيّل لنا أن غرابة الحال تعود إلى سرعة التقلبات في المواقف والآراء، وإلى مفارقات لم يبخل الربيع المصري بالإفصاح عنها. فانتقال «الإخوان» من السلطة إلى المعارضة وتفصيل الشرعية الدستورية على مقاس الموقع بسرعة قياسية لا يضاهيهما سوى السرعة القياسية التي جعلت كثيرين رددوا قبل انتخاب مرسي شعار «يسقط يسقط حكم العسكر»، يرحبون بالانقلاب العسكري على حكم «إخواني» لم يعش أكثر من عام... وذلك على خلفية تظاهرة 30 حزيران (يونيو) المليونية التي أظهرت تدخل العسكر في صورة استجابة لحراك شعبي يرفض سلطة «الإخوان» من دون أن يكون ثورة شعبية. ومع أن احتمالات انزلاق جزء من بيئة «الإخوان» نحو جذرية عنيفة على الطريقة الجزائرية، غير معدومة وتشغل بال كثيرين، من المستبعد في المدى القريب أن يتخلى الحزب «الإخواني» عن نهجه العريض في مواصلة التموضع على قاعدة اللعبة الشرعية والدستورية التي أوصلته عبر صناديق الاقتراع إلى سلطة لم يُحسِن مرسي وحزبه تدوير زواياها، في ظل غليان شعبي لا تنهيه الانتخابات. لكن أخطاء «الإخوان» ليست جريمة، ناهيك عن أن إطلاق حكم مبرم على تجربة عام واحد، أمر لا يخلو من التسرع والاستخفاف بقاعدة شعبية عريضة يمثلها «الإخوان» وواجهاتهم الاجتماعية والمدنية والخيرية الكثيرة. صحيح أن ممثلي السلطة الانتقالية الجديدة لا يكفون عن الدعوة إلى مصالحة وطنية واسعة، ويشددون بمزيج من الدهاء والحس السليم على عدم إقصاء أي طيف من المجتمع المصري. وهذا بالضبط ما يضع «الإخوان» أمام امتحان قاسٍ يكاد أن يكون معضلة يصعب التخلص منها بخسائر قليلة. فالمعروض عليهم عملية تدجين واحتواء تنزع عنهم صفة الحزب الأقوى والأكثر تنظيماً وتماسكاً في مصر، وإخراجهم بالتالي من موقع قيادة البلد، دولة ومجتمعاً. وكان متوقعاً أن يرفض «الإخوان» مصالحة كهذه وأن يتمسكوا بموقف يدين عملية عزل مرسي باعتبارها انقلابية وغير شرعية وغير دستورية. وقد أعلن قيادي «إخواني»، هو محمد البلتاجي، أمام جموع مؤيدة لمرسي محتشدة في ساحة رابعة العدوية، أن الحديث عن مصالحة هو «أكاذيب» وأنه لم تُعرض على «الإخوان» أي حقيبة وزارية، وهم كانوا سيرفضونها على أي حال. واعتبر البلتاجي أن المصالحة المزعومة هي مع حسني مبارك وحبيب العادلي وأحمد عز، أي رموز السلطة المخلوعة بمقتضى ثورة 25 يناير، وليست مع شعب مصر. نعلم أن هذا الخطاب تحريضي وتعبوي، يخاطب جمهوراً غاضباً. لكنه يغمز من قناة شبح لا يكف «الإخوان» عن التلويح به للتشديد على أنهم وحدهم القادرون والمؤهلون لفضح ألاعيبه وأشكال تسلله من نوافذ الثورة. إنه شبح الفلول. والحق أن تركيز «الإخوان» على خطر التفافٍ على الثورة تمثّله فلول النظام البائد، لا يعود فحسب إلى حاجتهم للتذكير بمظلومية تاريخية قابلة للتولد مجدداً، كما يُستَشف من تحركاتهم وتصريحاتهم الأخيرة ضد الانقلاب على مرسي و «الإخوان» عموماً. وهو لا يعود أيضاً إلى حاجتهم للتلويح بفزاعة يستخدمونها لابتزاز المعترضين والمترددين. فهم يعلمون أن صورة «الفلول» في حد ذاتها لا تقول شيئاً مهماً، بل هي أفقر من مقولة موازية عرفناها في العراق في أعقاب الغزو الأميركي - البريطاني، أي اجتثاث «البعث». ذلك أن صورة «الفلول» لا تحيل على قوة ملموسة ومشروع تحمله طبقة أو فئة أو جهاز، بل تحيل، في أقصى تقدير، إلى سلوك مفعم بالمكر والاحتيال ونوازع الوصولية والانتهازية، وهذه كلها من مستوجبات صلات قائمة على المحسوبية والمحاباة والتدافع المتوحش لنيل الحظوة والتقرب من ولي النعم ودائرته الخاصة، باعتبارها مركز نظام سلطاني حديث. وهناك بالطبع مَنْ يتمرنون على هذا السلوك وقد يبرعون فيه إلى حد الاحتراف، أكانوا داخل الحزب الحاكم أم متسلقين إلى مرتبة الحاشية. لكن ذلك يبقى قبض ريح. لا يعني هذا أن «الفلول» خرافة وأن من المستحيل على مجموعة من المستفيدين السابقين أن تستجمع قواها وتحكّ ظهور بعضها بعضاً لانتزاع مواقع ومنافع في الوضع المستجد. لكن الإصرار على خطرها، في أدبيات «الإخوان» خصوصاً، إنما يؤشر إلى أمر بالغ الأهمية هو أن الثورة باتت، وربما كانت أصلاً، بلا أبواب. وها هنا يتكشف جزء من التباسات الربيع العربي وحدوده. الشيء الوحيد الذي تفصح عنه تقلبات الحال في مصر هو أن التسونامي الإسلامي قد يكون عمره من عمر أي عاصفة ونازلة من نوازل الطبيعة، وفق ما تنبأ بعضهم. لكن ثقل الأوزان الاجتماعية والأيديولوجية لا يقاس بهذه المقاييس. مصر الخاسرة دائماً لم تخسر قط، كان يقول جاك بيرك.