وُلدَ الشيخ مُحَمَّد بن مَحْمُوْد بن صالح بن حسن، الطرابزوني، المدني، الحنفي في عهد السلطان العثماني محمد الرابع في مدينة طرابزون التركية حوالى سنة 1100 ه/ 1688 – 1689 م، وبدأ طلب العلوم والمعارف في بلده، ثم انتقل إلى مدينة الآستانة عاصمة الخلافة الإسلامية العثمانية، فأخذ العلوم على علمائها، ثم تنقل في بلاد الشام ومصر والحجاز، وجاور في الحرمين الشريفين والقدس عشرات السنين، وكان يتردد إلى مدينة الآستانة حيث أصبح في السنوات الأخيرة من حياته إماماً لجامع السليمانية، ومُدرساً في مدارس السليمانية وحافظاً للكُتُب، وبعد حياة طويلة في خدمة العلوم العربية والإسلامية توفي الفقيه المحدّث المفسر؛ اللغوي الأديب؛ القادري محمد المدني في 15 رمضان المبارك سنة 1200 ه/ 11 تموز 1786م، ودفن في مقبرة قرجه أحمد بعدما عاصر تسعة سلاطين من الخلفاء العثمانيين تقريباً. وكانت وفاته في عهد السلطان عبد الحميد الأول بن السلطان أحمد الثالث بن السلطان الغازي محمد الرابع. المدني في المصادر والمراجع العثمانية والعربية تتضمن المصادر والمراجع معلومات طفيفة حول الشيخ محمد الطرابزوني المدني، فقد اقتصر محمد ثريا مؤلف كتاب سجل عثماني (انظر سجل عثماني، محمد ثريا؛ دار الطباعة العامرة: 4/262-263.) على ترجمة قصيرة في ثلاثة أسطر، وأكثر المعلومات هي ما أورده محمد طاهر بروسه لي في كتابه عثمانلي مؤلفلري (انظر عثمانلي مؤلفلري: 1/167. المطبعة العامرة في الآستانة سنة 1333 ه.) وقد ترجم إسماعيل باشا البغدادي تلك المعلومات من اللغة التركية العثمانية إلى اللغة العربية، وضمَّها إلى كتابه هدية العارفين أسماء المؤلفين وآثار المصنفين (هدية العارفين أسماء المؤلفين وآثار المصنفين: 2/345.) واعتمد خير الدين الزركلي على ماورد من معلومات في هدية العارفين وضمّها إلى كتابه الأعلام (الأعلام: 7 /89.) ولكن يوسف سركيس لم يُحدِّدْ وفاته في معجم المطبوعات (ج: 2/1720-1721) واكتفى بالقول: «المدني الشيخ محمد نبغ سنة 1191 ه»، وذلك في معرض حديثه عن طبعة الاتحافات السنية بالأحاديث القدسية في حيدر آباد سنة 1323 ه، ولكن عمر رضا كحالة بنى على هذه المعلومة الوهمية، فاخترع شخصين من الشيخ محمد المدني في كتابه معجم المؤلفين؛ وأورد للشيخ ترجمتين، الأولى تحت اسم محمد بن محمود بن صالح بن حسن الطرابزوني، الحنفي، الشهير بالمدني ت 1200 ه/ 1786م (انظر معجم المؤلفين: 12/3) وذكر أن مصادره هي هدية العارفين (2/345.) وإيضاح المكنون (1/239، 1/450.) والترجمة الثانية تحت اسم محمد مكي الطرابزوني المعروف بالمدني ت 1197 ه/ 1777م (انظر معجم المؤلفين: 12/48) وذكر أن مصدره إيضاح المكنون. يتبيّن لنا من خلال استقراء التراث المخطوط الذي خطَّه الشيخ محمد المدني خلال قرن من الزمن؛ أن الحياة العلمية للشيخ قد مرّت بمراحل، أولها: تعلُّم القراءة والكتابة، وثانيها: التخصص بالعلوم العربية والإسلامية، وثالثها: نَسْخُ المخطوطات، ورابعها المقابلة بين ما ينسخه وبين المخطوطات الأُخرى من الكتاب المستنسَخ، وخامسها: كتابة المنتخبات والمختصرات من كُتُب العلماء، وسادسها: كتابةُ الحواشي والشروح، وسابعها: التأليف المستقلّ، وثامنها: التحقيق. بدأ الشيخ محمد الطرابزوني المدني أخذ العلوم - على عادة علماء زمانه - في المنزل حيث بدأ بحفظ قصار السور القرآنية على يدي والدته أمينة خانم ووالده صالح ثم التحق بالكتاب فحفظ القرآن الكريم، ومختارات من الحديث النبوي، ومُتون العلوم التي كانت سائدة في زمانه، فظهر نبوغه، واشتدت رغبته إلى المزيد من تحصيل العلوم. ولما بلغ محمد الطرابزوني سِنَّ الشباب، وانتهى من تحصيل علوم علماء ولاية طرابزون، رحل إلى مدينة الآستانة عاصمة الخلافة الإسلامية العثمانية التي كانت محطَّ رِحال علماء العالم الإسلامي، ومهوى أفئدة المسلمين المخلصين، فأخذ ما منحه الله تعالى من علوم علماء العاصمة في المدارس السليمانية وغيرها من مدارس اسطنبول، ثم بدأت رحلته الخارجية في طلب العلم على عادة علماء المسلمين الأوائل، فغادر مدينة الآستانة قاصداً بلاد الشام سنة 1123 ه/ 1711 م (انظر عثمانلي مؤلفلري، محمد طاهر بروسه لي، المطبعة العامرة 1333 ه: 1/167). سافر محمد الطرابزوني من مدينة الآستانة، والراجحُ أنه سَلَكَ طريقَ القوافلِ القديم حتى وصل إلى مدينة حلب، فزار جامعها الأموي، والمدرسة الخسروية وأخذ من علوم علمائها، ثم توجّه جنوباً على عادة المسافرين فنزل في خان السبيل ثم نزل في معرة النعمان وأقام في التكية المرادية في خان مراد باشا ثم غادر المعرة فمرّ ببلدة خان شيخون ثم غادرها إلى مدينة حماة ثم قصد مدينة حمص فزار جامع خالد بن الوليد رضي الله عنه، وبعد ذلك قصد مدينة دمشق فنزل في التكية السليمانية المجاورة للتكية السليمية، وزار الجامع الأموي وغيره، وأقام في الشام أكثر من عشر سنوات ثم أقام في القدس والخليل مُدّةً مِن الزمن. وبعدما استكمَلَ الشيخ محمد المدني أخْذَ العلوم من عُلماء الشام وبيت المقدس وخليل الرحمن توجه إلى مصر مروراً بغزّة هاشم ولكن تاريخ سنة مغادرته غير معلومة بالتحديد، وبعد المغادرة استمرت إقامته في مصر حتى سنة 1154 ه/ 1741م، وحينذاك قام بمقابلة نسخته من كتاب العجالة السنية على ألفية السيرة النبوية (انظر الرَّقْم الْحَمِيْدِيّ: 828/1. الأوراق: 1-169/ب) للمناوي، الشافعي، على مخطوطة أُخرى ثم غادر مصر إلى مكةالمكرمة في تلك السنة، فأكمل مقابلة الكتاب وعلق على المخطوطة المحفوظة في مكتبة السليمانية بقوله: «أنا الفقير الطرابزوني، اشتريت هذا الكتاب العديم المثل في بلدة قسطنطينية، ثم لما طالعته لقيته محرّفاً جداًّ، ثم بعد شرائي له جئت إلى مصر، وفتشت عن نسخة لأقابل عليها، وما وجدت إلا بعد جُهد، والتي وجدتها هي مخرومة من أثناء السرايا إلى الآخر، الله أعلم قابلت عليها إلى أثناء الغزوات، ثم عزمت على السفر إلى مكةالمكرمة، وجئتها وجاورت فيها، ثم بعد ذلك فتشت عن نسخة لأقابل عليها ما بقي، ما وجدت إلا النسخة الكبيرة للمصنف، أخذتها وقابلت عليها بحسب الطاقة وزدت من الكبير في الهامش، مَن لقي النسخة هذه فليغتنمها».