ظل ريف حمص في غرب سورية طيلة أشهر نموذجاً غير تقليدي للتعايش في الحرب الضارية التي تشهدها البلاد منذ عامين... والآن ثمة احتمال بأن ينزلق إلى طريق يجعله نقطة سوداء في الصراع، الذي يتخذ بُعداً طائفياً متزايداً. وقد أجبرت الانتفاضة السورية، التي تحولت إلى صراع مسلح، معظم السوريين على الانحياز إلى أحد طرفي الصراع، الذي أسفر حتى الآن عن سقوط أكثر من 100 ألف قتيل. لكن هذا القطاع الاستراتيجي من الأرض الذي يسكنه مزيج من الطوائف الدينية ذات الانتماءات السياسية المتباينة، تجنب هذا الخيار المتطرف. ونظرا إلى توجس طرفي الصراع من فتح جبهة جديدة، فقد سمحا للقرى بأن تتعاون سراً مع كل من القوات الموالية للرئيس بشار الأسد ومقاتلي المعارضة. ويتعامل كل من هذه القرى مع الوضع بطريقته الخاصة، فعلى سبيل المثال تبدو قرية الزارة صباحاً وكأنها منطقة موالية للنظام السوري، إذ تفتح المدارس أبوابها ويرفرف علم النظام فوق المصالح الحكومية المعلقة فيها صور الأسد، لكنها تتحول في الليل إلى مركز تهريب للغذاء والدواء والسلاح المرسل إلى مقاتلي المعارضة في القرى المجاورة، والذين يحاربون قوات الأسد. وقال عامل بناء من القرية يدعى سالم، إن «الجميع يعلم ما كان يحدث. الرجال يمررون الإمدادات عبر نقاط التفتيش التي تحرسها ميليشيات الأسد أمام أعينهم». لكن الآن أصبح الجيش النظامي السوري الذي ازداد ثقة بسبب سلسلة انتصارات حققها في معارك بمناطق مجاورة، يجبر هذه القرى على الاختيار: إما الاستسلام وإما الهلاك. ويمكن أن تكون النتيجة كارثية، إذ يشعر السكان هنا بأن الغلبة ستكون للجيش على الأرجح، إلا أن التكلفة ستكون باهظة. وقال ساكن آخر في الزارة:»أي صاحب عقل هنا يرى أن القتال سينتهي بلا شك بدمار الجانبين». وربما يكون هذا هو الثمن الذي أصبح الجيش مستعداً لدفعه، نظراً لأن المكاسب التي تحققت أخيراً تعني أن هدف الأسد، القائم على إنشاء حزام من الأرض بين العاصمة دمشق ومعقله على ساحل البحر المتوسط، أصبح قاب قوسين أو أدنى. وفي الشهر الماضي، سيطر الجيش بدعم من «حزب الله» اللبناني على بلدة القصير الاستراتيجية قرب الحدود اللبنانية، وإذا تمكن من ترسيخ هذا المكسب من خلال السيطرة على الجزء الريفي من حمص، فربما يتمكن أيضاً من إغلاق خطوط الإمداد إلى مقاتلي المعارضة وإلى وسط سورية، وقطع الطريق بين مقاتلي المعارضة في الشمال وأقرانهم في الجنوب. وحاولت القرى الكبرى، مثل الزارة، طوال شهور تحقيقَ توازن دقيق بين التعاطف الأيديولوجي والواقع الجغرافي. ولان غالبية سنية تسكن هذه المنطقة، فإن السكان يتعاطفون مع الانتفاضة ضد حكم الأسد. ولجأ آلاف من أقارب المقاتلين الذين انضموا إلى الانتفاضة إلى هذه البلدة، التي كانت تنعم بالهدوء يوماً ما. لكن الزارة تحيط بها قرى يسكنها علويون، منحازون بطبيعة الحال للرئيس العلوي. ويوجد خارج طوق القرى العلوية واد مليء بالقرى المسيحية، التي ألقت بثقلها وراء الأسد وتحالفت مع العلويين -خشية تنامي نفوذ الإسلاميين- في تشكيل ميليشيات «الشبيحة» الموالية للنظام. وعلى خلاف العداء الذي سرعان ما أحدث انقساماً بين العلويين والسنة، فإن المسيحيين والسنة حاولوا أن يتجاهلوا هذا الانقسام الطائفي المتزايد، استناداً إلى تاريخ طويل من التعايش بين الطائفتين. لكن ميليشيات «الشبيحة» التي تضم مسيحيين، تعهدت بدعم الهجوم الجديد للجيش، وهم يقولون إن الوضع الآن أصبح إما أبيض وإما أسود، أي أن عليهم الاختيار. وقال مقاتل من الوادي ذكر أن اسمه جوني: «ليس هناك سنة طيبون، هناك فقط سنة سيئون لا يحملون السلاح، وسنة أكثر سوءاً يحملون السلاح». وأضاف: «إذا لم نهزمهم الآن فسوف يهزموننا... لذلك أقول أن نتغدى بهم قبل أن يتعشوا بنا». تقع قرية جوني على بعد كيلومترات من بلدة الحصن السنية التي تشتهر بقلعة الحصن المطلة على البلدة، وللمرة الأولى منذ قرون أصبحت هذه القلعة التي تعود إلى عصر الحملات الصليبية معرضة للخطر، وهذه المرة من المدفعية والغارات الجوية التي تشنها قوات الجيش لدى محاولتها إخراج مقاتلي المعارضة. ويقول شبيحة في المنطقة إن الأسد ربما يجلب مقاتلين من «حزب الله»، الذي كان له دور حيوي في النصر الذي تحقق في القصير. كانت القصير أداة مفيدة لإخافة المحليين الذين يخشون من المصير المماثل، إذ إن قوات الأسد و «حزب الله» سوَّت أغلب البلدة بالأرض عندما دخلتها. وفي بلدة تلكلخ المجاورة نقضت قوات الأسد هدنة عقدتها مع المعارضة في أوائل 2013. ويقول ناشط هناك إنهم هددوا السكان عبر مكبرات الصوت وقالوا لهم أن يتعظوا بما حدث في القصير، وطلبوا منهم تسليم السلاح مقابل ضمان سلامتهم. وشأن بلدة تلكلخ شأن الكثير من البلدات في المنطقة، إذ تسير الحياة فيها بموجب صفقة بين مقاتلي المعارضة وقوات الأسد أخرج الجيش بمقتضاها جنوده ونقاط التفتيش، بينما طرد مقاتلو المعارضة المقاتلين الأجانب الذين يصلون من لبنان المجاور. ويسمح مقاتلو المعارضة لموظفي الحكومة من البلدات المجاورة بدخول تلكلخ كل يوم لمباشرة أعمالهم في المصالح الحكومية، كما أن الجيش الذي يسيطر على طرق مجاورة يسمح للسكان المحليين بجلب المواد الغذائية. لكن التوتر الذي ساد المنطقة بعد معركة القصير أثر على العلاقات وأشعل فتيل الاشتباكات. وقال سكان إن مقاتلي المعارضة بدأوا يتفاوضون على عدد موظفي الحكومة الذين يسمح لهم بدخول البلدة كل يوم وفقاً لكمية المواد الغذائية التي يسمح الجيش بإدخالها. والسكان هم الذين ضغطوا على مقاتلي المعارضة هناك للاستسلام هذا الشهر على أمل الحفاظ على السلام الهش في المنطقة. وفي ظل استسلام تلكلخ، توقعت قوات الأسد سرعة استعادة قرية الزارة، عندما أصدرت تحذيراً مماثلاً هذا الأسبوع. لكن بدلاً من ذلك تعرضوا لهجوم ضار من مقاتلي المعارضة الذين كانوا يتجمعون سراً في المنطقة وقرروا القتال على عكس رغبة الكثير من السكان. وقال سالم، عامل البناء من الزارة «قرى العلويين التي تحيط بنا تدافع عن النظام بضراوة». وأعرب عن قلقه من عواقب اختيار مواصلة القتال في القرية، مضيفاً: «المقاومة لن تجدي نفعاً». وفي وقت متأخر من الخميس الماضي تمكن مقاتلو المعارضة من ضرب قرية علوية مجاورة والاستيلاء على دبابات للجيش. وقال السكان إن النتيجة كانت تعبئة كبيرة من الجيش، بما في ذلك غارات جوية كان صداها يتردد في أنحاء المنطقة صباح الجمعة. ولا يزال مقاتلو المعارضة يحاولون التفاوض على الحياد مع البلدات المسيحية المجاورة، وقال قس في الوادي طلب عدم ذكر اسمه، إن مقاتلي المعارضة طلبوا منه الوساطة مع «الشبيحة» المسيحيين لوقف إراقة الدماء. وأضاف: «أبلغني الثوار بأن ما يجمع المسلمين والمسيحيين أكثر مما يفرقهم. لكن إذا انضم المسيحيون إلى الهجوم فسيكون بيننا وبينهم دم». وهو يجري محادثات لتشجيع «الشبيحة» على عدم القتال، لكنهم يقولون إن الوقت فات وإن كل طرف اتخذ قراره بشأن الجانب الذي سينحاز له. وقال المقاتل الذي ذكر إن اسمه جوني: «أنجزنا المطلوب. صدر إنذار للحصن كي تستسلم... هذه حرب وأصحاب القلوب الضعيفة لا ينتصرون في الحروب». بدأ الشبيحة في إحراق الغابات المحيطة بالبلدة التي يوجد فيها مقاتلو المعارضة لحرمانهم من أي أماكن للاختباء بينما يحاول الجيش فرض حصاره. ويحذر رائد الشاعر، وهو قائد لمقاتلي المعارضة في الحصن، من أن المسيحيين ربما يجدون مفاجآت مماثلة للتي وجدها العلويون في الزارة هذا الأسبوع. وقال لوكالة «رويترز» في مقابلة: «مصيرنا مرتبط بسكان الوادي... لدينا خلايا نائمة بين سكان الوادي. لم نطلب منهم بعدُ أي عمل عسكري». ويقول المقاتلون في الحصن إنه على عكس صفقات سابقة تم التوصل إليها، فإن الاختيار بين الحرب والسلم لم يعد في أيدي السكان. واعتبر أحد النشطاء في البلدة أن «الخيار ليس لهم. الثوار هم الذين يختارون... والاختيار هو: إما أن نحارب أو نموت ونحن نحاول».