في العقد الذي سبق «الربيع العربي» كانت معارك الدراما الرمضانية تشهد فصولاً مدوّية، فهي تبدأ منذ ما قبل شهر رمضان، وتستمر خلاله، وتتواصل في الأسابيع اللاحقة لرمضان. مسلسل «الحاج متولي»، مثلاً، أثار معركة من هذا النوع، وكذلك «الملك فاروق»، ولوحات «بقعة ضوء»، و «ما ملكت أيمانكم»، ولاحقاً مسلسل «عمر»... وقيل، أيضاً، ان المدن العربية كانت تشهد نوعاً من منع التجول الطوعي لدى عرض بعض الأعمال مثل «باب الحارة» والأجزاء المنسوخة عنه والتي حظيت بنجاح كبير، إنْ كانت نسب المشاهدة العالية تمثل معياراً للنجاح. الملاحظ انه في السنتين الأخيرتين هدأت هذه المعارك، وخصوصاً في هذه الدورة الرمضانية التي ستحل بعد أيام. طبعاً، ثمة أسباب موضوعية لمثل هذا التراجع لعل أبرزها هو أن الدراما التلفزيونية، مثلها مثل أي صناعة، تحتاج إلى بيئة آمنة مستقرة، وعلى اعتبار أن القاهرة ودمشق هما اللتان تنتجان أكبر نسبة من الأعمال الدرامية، فإن ما جرى ويجري فيهما قلّص الانتاج الدرامي، وعندما يكون عدد الأعمال قليلاً، فإن المعارك المصاحبة لها تخبو بدورها، ويفقد الموسم الرمضاني روح المنافسة الحادة. مع ذلك، يبدو أن هناك سبباً أكثر منطقية مما سبق جعل المعركة الدرامية الرمضانية تفقد بريقها، ويتمثل في أن دراما الواقع اليومي في كل من مصر وسورية والعراق ولبنان وتونس... باتت تتفوق على الدراما التلفزيونية. دراما المليونيات والميادين، وقصص اللجوء والقصف والنزوح، وحكايات الصراع المذهبي والطائفي، والتفجيرات الانتحارية الدامية، والبيانات العسكرية، وتصريحات المسؤولين والمعارضين والناشطين... كل ذلك بات يستحوذ على اهتمام المشاهد، فيغدو أولوية للفضائيات. لم يعد خيال كتّاب السيناريو والمخرجين التلفزيونيين، وهو خيال فقير على أي حال، يضاهي أو يوازي تراجيديا الواقع اليومي. الدراما المؤثرة أصبحت في الشارع وفي خيم اللجوء وفي الاشتباكات اليومية، بل أن رموز الدراما التلفزيونية ذاتها أصبحوا جزءاً من هذه الدراما الواقعية البديلة، أكثر من الدراما التلفزيونية، فهم يشاركون في التظاهرات والاعتصامات ويصدرون البيانات، ويعبرون عن مواقف سياسية في هذا الاتجاه أو ذاك. الأرجح ان الموسم الرمضاني الوشيك سيمر خفيفاً، ولن يثير الكثير من السجال والجدل، وها هي البدايات الباهتة تنبئ بهذه النتيجة، وستبقى عيون المشاهدين شاخصة نحو الساحات والشوارع والأزقة ودروب اللجوء المضنية، ونحو قصور الساسة وهي تصوغ البيانات والبلاغات، لتطمئن الرعية البائسة، ولعل كل هذا الحراك الشعبي القاسي، وكذلك أصوات الرصاص ونُذُر الموت ستتحول في السنوات المقبلة إلى مسلسلات درامية، وستتابع الأجيال التي لم تعش المأساة الحالية تلك الدراما، متسائلة: هل حصل ذلك حقاً؟ وإلى أن تهدأ أصوت المدافع ولظى الحرائق، فإن حظوظ الدراما التلفزيونية ستبقى ضئيلة سواء من ناحية الانتاج أو من ناحية إثارة المعارك، طالما كان في وسع المشاهد أن يتابع أقسى أنواع الدراما من نافذة بيته، وفي الشارع والمقهى والحقل والمصنع...