بعد مقالة عمار علي حسن، في عدد أول من أمس الإثنين، عن «التركيبة الاجتماعية والاقتصادية للإخوان المسلمين وخلفيتهم الثقافية»، هنا مقالة ثانية عن التكوين الاجتماعي والثقافي للإخوان الذين يواجه حكمهم الحالي في مصر مأزقاً، خصوصاً في محطة 30 حزيران (يونيو) الجاري، حيث تتواجه تظاهرات معارضة ومؤيدة يتخوف منها المصريون. لا تُمكن قراءة تاريخ مصر الحديث منذ نهاية عشرينات القرن العشرين وحتى الآن من دون أن يُذكر اسم جماعة «الإخوان المسلمين»، فالجماعة التي أسسها الشيخ حسن البنا (1906-1949) عام 1928 كانت ظاهرة في الأحداث وفي التفاعلات بين أجهزة الدولة (بخاصة الأجهزة الأمنية) والمجتمع. وكانت هذه التفاعلات تتخذ صوراً من الاقتراب والابتعاد اللذين لا يخلوان من صراع كامن أو ظاهر، أو تحالف كامن أو ظاهر. ورغم أن فترات الصراع كانت أطول من فترات المهادنة، إلا أن هذا لم يمنع قط من أن تتزايد الجماعة في العدد، وأن تتسع محلياً وإقليمياً، بل عالمياً. وقد يرجع ذلك إلى دقة التنظيم، والإيمان بالمبادئ التنظيمية والعقدية، ومساعدة بعض القوى الإقليمية والدولية. ومهما تكن الأسباب، فقد استطاعت الجماعة، التي نشأت في مدينة صغيرة (الإسماعيلية)، أن تتربع الآن على سدة الحكم في مصر. وسنحاول في هذا المقال أن نبحث في الخلفية الاجتماعية للجماعة، أو ما أسميه التكوين الاجتماعي والثقافي، ما يفيد في التعرف إلى جوانب من التوجهات السياسية وطبيعة الأداء السياسي وأساليبه. والفرضية الأساسية التي أنطلق منها هي أن جماعة «الإخوان المسلمين» نشأت في أتون التغيرات الاجتماعية التي لحقت بالمجتمع المصري في بداية القرن العشرين، وما صاحبها من تشكل المعالم الأساسية للطبقة الوسطى المصرية، وأنها عبَّرت عن تطلعات وطموحات قطاع من الشريحة الأدنى من الطبقة الوسطى في حال نشأتها، لكنها، مع تطورها التاريخي وتفاعلها مع الأحداث مع السلطة المركزية، وتطور إمكاناتها الذاتية وطموحاتها، تحولت لتستغرق قطاعات أعرض من الطبقة الوسطى، خصوصاً القطاعات المهنية. نمو الرأسمالية المصرية نشأت جماعة «الإخوان المسلمين» ومصر تدخل نهاية العقد الثالث من القرن العشرين. كانت الرأسمالية الزراعية تولد رأسمالية صناعية وتجارية، وعلى أثر ذلك شهدت المدن نمواً عمرانياً وديموغرافياً كبيراً، لتزايد الفقر الريفي من ناحية وتزايد الطلب على العمالة في الحضر. وأصبحت المدينة مركزاً للحركات الاجتماعية والسياسية. كانت القرى معزولة نسبياً، ولذلك تحولت المدن –بخاصة القاهرة– إلى مكان لمزاولة صور النضال المختلفة، سواء كانت نابعة من مرجعيات مدنية أو من مرجعيات دينية. وعلى المستوى الطبقي، برزت المعالم الأساسية لتكوين الطبقة الوسطى. ولقد ضمت هذه الطبقة فئات من ملاك الأراضي ورجال الصناعة والتجار، ولكن طليعتها الأساسية تكونت من المتعلمين الذين أصبحوا يشغلون مناصب في التدريس والمحاماة والبنوك والمحاكم والجيش والشرطة. ولقد انشغل المتعلمون من قمة هذه الطبقة بأمور السياسة وهموم الوطن، وكانوا في معظمهم من ذوي التوجهات المدنية ووضعوا من خلال نشاطهم الأسس التي قامت عليها الأحزاب والصحافة والجامعة والصناعة والتجارة والنظام البنكي وقادوا الثورة المصرية عام 1919. خريجو المدارس الدينية وعند الطرف الآخر لهذه الطبقة الوسطى الناشئة تكونت فئات لم تكن لها علاقة وثيقة بكل هذه النضالات، ولكنها كانت تستشعر الحرمان الذي يضرب قطاعات عريضة من سكان المدن والريف، وكانت تستشعر من ناحية أخرى طغيان الحياة الحديثة مع عدم القدرة على مواكبتها والدخول في طرائقها المعقدة. ويبدو أن المتعلمين من أبناء هذه الفئة كان لهم اختيارهم التعليمي الخاص، فإذا كان المناضلون المدنيون من أبناء هذه الطبقة تعلموا في أوروبا أو في مدرسة الحقوق، فإن هذه الفئة من المستوى الاجتماعي الاقتصادي المختلف مالوا إلى التعليم الديني في الأزهر ودار العلوم، ولذلك توافر لهذه الفئة شرطان يجعلان من مناضليها أكثر اتجاهاً إلى الدين ويتحصنون خلفه على الشاطئ الآخر –البعيد- من النهر النضالي: الشرط الأول قربها من مصادر الحرمان والفقر، واستشعارها الوطأة المادية للحياة الحديثة، والثاني الخلفية الدينية للتعلم في دار العلوم أو الأزهر، أو حتى الخلفية الدينية للأسرة. من هؤلاء جاء حسن البنا (1906-1949)، مؤسس الجماعة الذي ينتمي إلى أسرة بسيطة مكافحة، والذي أبدى استعداداً قوياً منذ نعومة أظافره للقيادة والذود عن الدين ومكافحة المحرمات، وأنهى تعليمه الجامعي في دار العلوم. ولقد ضم مكتب الإرشاد الأول الذي تم تكوينه بعد عقد المؤتمر الأول للجماعة في العام 1931، عشرة أعضاء غير المرشد العام، منهم أربعة من خريجي الأزهر يعمل اثنان منهم في التدريس، وثالث يعمل في الوعظ ورابع يعمل مأذوناً شرعياً، ومن الستة الباقين كان هناك أربعة موظفين في هيئات حكومية ومدرس. أما العضو العاشر فلم تعرف وظيفته، وكتب أمامه «من أعيان الجمالية» (وهو الأستاذ خالد عبد اللطيف). ويؤشر تكوين مكتب الإرشاد على الأصول الاجتماعية والتكوين الثقافي للجماعة في نشأتها الأولى، فمعظمهم من المتعلمين تعليماً دينياً أو مدنياً، وكلهم تقريباً من المستوى الاجتماعي الاقتصادي الذي انحدر منه المؤسس والمرشد العام الأول، كما أنهم أقرب في أعمالهم ووظائفهم إلى عامة الناس، وأكثر التصاقاً بهمومهم في المدارس والمساجد. ولا تعد نشأة الحركة الإسلامية الإخوانية في مدينة الإسماعيلية مجرد صدفة بسبب عمل حسن البنا في هذه المدينة، بل يمكن أن تفسر هذه النشأة في ضوء اعتبارات أخرى، منها وجود القوى الاستعمارية في منطقة القناة، والإدارة الأجنبية لها، وتزايد المهاجرين الفقراء إلى مدينة الإسماعيلية، وطرفية المدينة التي تسمح لجماعة مناوئة ومتطرفة أن تتكاثر بعيداً من أعين السلطة، الأكثر قوة في المركز. أول المشجعين ولم يشكل الوجود الأجنبي في منطقة القناة عقبة، بل ربما كان عوناً للجماعة، التي اعتبرتها مناوئة للحركات المدنية في القاهرة التي تجعل محاربة الاستعمار أول أولوياتها وعلى مقدم أجندتها. وعلى أي حال، فمع انتشار الحركة وانضمام أعداد متزايدة من المصريين إليها، بدأت تضم عناصر من الفئات الأكثر استقراراً ونعمة من أبناء الطبقة الوسطى. وظلت الحركة تستقطب أعداداً من القادمين من الريف إلى عالم المدينة من أبناء الطبقة الوسطى، مثل سيد قطب (1906 – 1966)، ومصطفى مشهور (1921 – 2002)، ومهدي عاكف (1928 - ) ، وعبد القادر عودة (1906 – 1954) وجميعهم من خلفيات اجتماعية أقرب إلى الخلفية التي انحدر منها المؤسسون الأوائل للحركة، كما أنهم جميعاً تلقوا تعليماً دينياً في بداية حياتهم، أو على الأقل انحدروا من أسر ذات خلفيات دينية (فقد حفظ سيد قطب القرآن قبل أن يلتحق بمدرسة المعلمين)، وجميعهم درسوا القرآن في كُتاب القرية. لكن الجماعة استقطبت إلى جانب هؤلاء أعداداً قليلة من الفئات الأكثر استقراراً من الطبقة الوسطى، نذكر منهم عمر التلمساني (1906 – 1986) الذي انحدر من أسرة غنية، إذ كان جده يحمل لقب الباشوية، ومحمد حامد أبو النصر (1913 – 1996) الذي ينتمي إلى أسرة أزهرية عريقة واسعة الثراء، وحسن العشماوي (1921 – 1972)، وأخته آمال العشماوي (زوجة منير دلة المستشار في مجلس الدولة وأحد قيادات الإخوان) وكان والدهما وزيراً للمعارف. ويبدو أن هذا النمط من التوافد إلى الحركة ظل هو السائد إلى الآن. وهي تعمل في المستويات الأوسع والأكثر قبولاً للدعوة في النطاق الأسفل في الطبقة الوسطى، مع استمرار انضمام عدد قليل من أبناء الطبقة الوسطى الأكثر استقراراً ونعمة. بل يمكن القول إن سنوات ما بعد ثورة 23 تموز (يوليو) 1952 شهدت تزايد الأعداد من هذه الفئة، خصوصاً أن التعليم وهجرة بعض أعضاء الجماعة إلى الخارج، أو إلى دول الخليج تحديداً، دفعهم إلى حراك اجتماعي صعد بهم إلى مواقع طبقية أعلى من المواقع التي انحدروا منها. بل إن التعليم في الفترة الناصرية دفع بأعداد من الفقراء إلى الصعود إلى أعلى السلم الاجتماعي، ومن ثم فقد ضم التنظيم الإخواني عدداً من هؤلاء، من خلال الدعوة للانضمام إلى الجماعة بين طلاب الجامعات. وقد يكون مفيداً في نهاية هذا المقال أن نتأمل جانباً من تأثير هذا التكوين الاجتماعي الثقافي في طبيعة الأداء الإخواني أو الفعل الإخواني في العمل السياسي. من أول هذه التأثيرات الرضا بفكرة الانقسام؛ فقد تأسست الحركة على انقسام طبقي وأيديولوجي: انقسام بين طبقات متباينة داخل الطبقة، وانقسام أيديولوجي ليس فقط بين المدني والديني (فأحسب أن هذا انقسام ثانوي)، ولكن انقسام بين الاهتمام بالعام في مقابل الاهتمام بالخاص، أقصد الجماعة الوطنية في مقابل الجماعة التي تقوم على الانتماء والولاء التنظيمي والعلاقات الشخصية (علاقات القرابة والمصاهرة والصداقة). وثمة تأثير آخر يتصل بالقدرة التنظيمية للجماعة، فهذه القدرة تنجح نجاحاً كبيراً في العمل بين الناس الأكثر حرماناً، وتنجح في الاستمالة باللغة والدين والعطايا، أي أنها تنجح في التعامل مع الخاص، ولكنها عندما تدخل إلى المجال العام فإنها قد تتعثر. * استاذ علم الاجتماع السياسي جامعة القاهرة