اعتاد المتظاهرون العودة ليلاً متسللين إلى ميدان كمال أتاتورك في «تقسيم» بعدما تُخرجهم الشرطة منه نهاراً. يزحفون فرادى ومجموعات من «جيزي بارك» (حديقة الغازي) حيث نصبوا خيامهم، ورفعوا راياتهم، وذلك في الأيام الأخيرة التي سبقت عملية «التطهير» الحكومية للحديقة والميدان في 15 حزيران (يونيو) الجاري. يتجمعون في ميدان اتاتورك وتحت تمثاله، بالمئات ليستمعوا إلى موسيقيين أتراك وأجانب يعزفون على البيانو من دون مكبرات صوتية. نوتات موسيقية تتنوّع بين الجاز والكلاسيك، وسط صمت مهيب، ومتابعة كاميرات الهواتف الذكية المضيئة بخفوت للمعنى السياسي المختبئ في حفلة موسيقية عادية تقطعها كل حين موجات تصفيق عالية،. يُعَد «تقسيم» أحد أكبر أحياء اسطنبول الممتد في قسمها الأوروبي. بُني في العام 1928، وشكّل مسرحاً مهماً للتظاهرات السياسية منذ وجوده، وهو في هذه الأيام الأخيرة معزول عن محيطه، إذ تكاد لا تصل إليه وسائط النقل. الحافلات تصل في أحسن الأحوال إلى محطة «قاسم باشا» المجاورة، حيث نشأ رجب طيب أردوغان وترعرع. هناك، المترو يصل فقط إلى محطة «كاباتاش» القريبة. فقط أهل اسطنبول لا يضلّون الطريق إلى «تقسيمهم»، وكذلك سيارات الأجرة التي تصل إلى الطرف الجنوبي من حديقة «جيزي»، وتنتظر المتظاهرين عساهم يملّون في يوم قريب، ويطلبون العودة إلى منازلهم. يبدو «تقسيم» وشارع «استقلال» في النهار وكأنهما ميدان حربٍ غُسِل على عجل. تنشط الشرطة وعمال البلدية ليلاً لطلي الجدران وإصلاح الأضرار، في سباق مع المتظاهرين والزمن، حيث يُراد طمس الذاكرة قبل أن تتشكل. ملاحقة تدفع الناشطين إلى التسلق أعلى وأعلى على الجدران التاريخية لشارع «استقلال»، على واجهات الأبنية وشرفاتها النافرة والمزينة بالنقوش ليكتبوا عباراتهم الثورية والشتائم بحق أردوغان، وشعاراتهم ورموزهم وألوانهم. هنا، تجد كل شيء: من المناجل والمطارق بتنويعاتها، مروراً بشعارات الفوضويين، ووصولاً إلى عشرات الحروف الأولى التي ترمز إلى اسماء الأحزاب والمنظمات اليسارية والفوضوية التي اكتسحت الميدان. «أبطال» الميدان يرسمون على الأرض، يخططون بالبخاخ الأحمر أشكالاً لرفاقهم الذين سقطوا جرحى قرب مبنى ثكنة «الحربية» العثمانية. يُجمع المتظاهرون على أنّ انفلات التمرد من قمقمه لم يكن نتيجة اقتلاع أشجار «جيزي بارك» فحسب، كمخطط لإعادة تنمية الحديقة وإقامة ثكنة عسكرية على الطراز العثماني وجامع ومجمع تجاري فيها، بل كانت مجرّد «القشة التي قصمت ظهر البعير» التركي؛ حين بدأت شركة مقاولات بعملية اقتلاع الأشجار من الحديقة بتاريخ 26 أيار (مايو) 2013، في مخالفةٍ لقرار قضائي يأمر بتعليق المشروع لحين بتّ النزاع حوله، تجمّع المئات من الناشطين للاعتصام احتجاجاً على قطع الأشجار، ودفاعاً عن الحديقة الأشهَر. اعتراضٌ سعى في الوقت نفسه إلى التمسُّك بهوية المدينة، رفضاً لمنطق رأس المال الحاكم الذي يرى في كل شيء امكانيةً للاستثمار والربح. إلا أنّ رد فعل السلطات التركية العنيف والسريع، و «المهووس بقوة الشرعية الانتخابية، وغير المكترث سوى للمجد الشخصي لأردوغان»، وفق الناشطة اليسارية رويدة، «غذّى الحركة الاحتجاجية، وجعلها ككلّ الحركات اللاعنفية، تكتسب قوتها من قوة الخصم، وحماقته». أما الناشط الفوضوي طلعت (27 عاماً)، فيشرح كيف تحوّل «ما كان تعبيراً طبيعياً عن تفاعُل مجتمعي يرفض تدخل السلطات السياسية وتوجّهاتها ذات الطابع الإسلامي في نمط الحياة اليومية، إلى صراع ومواجهة مع السلطة التي رفضت بدورها ألا ترى في تلك الحالة سوى تهديد مباشر لشرعيتها». كل ذلك تسبّب في تحويل الصراع من بُعده الاجتماعي إلى الحلبة السياسية، بفضل «ضيق مخيِّلة أردوغان»، وفق تأكيد رويدة. معظم السكان الجدُد للحديقة هم من شباب اسطنبول الكوزموبوليتية، التي يسكنها حوالى 20 مليون شخص. وتقرّ أنجي، اليسارية الكردية (31 عاماً)، بكون «حركة جيزي بارك» وقيادتها المتمثلة ب «تنسيقية تضامن تقسيم» هي «حركة بورجوازية صغيرة ذات توجه يساري». وتعرب الشابة عن شعورها بالتشاؤم نتيجة المناقشات التي دارت بين ممثلي المجموعات و«التنسيقية»، حول المفاوضات التي تمت مع ممثّلي الحكومة. تعتقد أنجي بأن مقامهم لن يطول في الحديقة، لأن الحكومة تعتبر الموضوع «شأناً شخصياً، بل حتى مؤامرة ضدها». كما أنها تشير إلى أن قرار الناشطين المتَّخذ بالإجماع، والقاضي باستكمال الاعتصام في الحديقة، «صائب» على رغم توقعها حصول مواجهات محتملة مع الشرطة. في «تقسيم» هذه الأيام، يسار نشيط يستقطب الشباب بقوة، على رغم أنه يعاني التشرذم والخلاف بسبب الولاءات الشخصية والحزبية. ويمكن زائر «جيزي بارك» أن يميّز بين عشرات الرايات المختلفة لأحزاب يسارية، تتراوح عقائدها بين الماركسية اللينينية والماوية مروراً بالتروتسكية. ويحار الكثير من منتسبي هذه «الميكرو»- تنظيمات في تبيان الفروق بينهم وبين سكان الخيمة اليسارية المجاورة. إلا أن إجماعاً يسود في النهاية حول هدف واحد، ألا وهو رحيل أردوغان. طلب يبدو مرتجلاً ولا يستند إلى موازين قوى حقيقية، ذلك أن التقديرات لا تزال تشير إلى امتلاك «العدالة والتنمية» غالبيةً انتخابية حقيقية، وإن كانت أدنى من عتبة الخمسين في المئة التي حقّقها أردوغان ورجاله في انتخابات 12 حزيران 2011. في «تقسيم» و«استقلال»، تبدو كاميرات المراقبة الخاصة والحكومية أحد الأهداف المباشرة لعنف المتظاهرين أثناء الاشتباكات الكثيرة مع الشرطة. ففي مكان غير بعيد عن السيارات المحروقة والمقلوبة على تخوم الحديقة، تنظر عيون الكاميرات العمياء في العدم بعدما أصابتها حجارة المتظاهرين، أو تم طلاؤها، في حين هُشِّمت الصرافات الآلية القريبة بالحجارة، ورُشقت بالألوان. يعكس ذلك روحاً ضجرة من المراقبة، وتوّاقة للعيش بعيداً من عيون «الأخ الأكبر» المتلصصة، ورفضاً لقيم السوق المسيطرة، وثقل أدواتها الحكومية على رقاب الأجيال الجديدة. تفاعلات اجتماعية تطفو على سطح المشهد التركي، على رغم نسب النمو العالية التي حققتها الحكومات المتعاقبة لأردوغان، وفوز «العدالة والتنمية» بثلاث دورات انتخابية وسط نجاح منقطع النظير، وتصفير الديون التركية، وهي نجاحات لا يمكن إلا لأعمى ألا يراها.