فتن حزب «العدالة والتنمية» التركي الكثير ممن يتمنون وجود تيار إسلامي سياسي ذي توجه ديموقراطي في العالم العربي، كما حظي بتقدير في الغرب عموماً وفى الولاياتالمتحدة خصوصاً. ولذلك يثار السؤال من وقت إلى آخر عن إمكان حدوث تطور في موقف التيار الإسلامي الأكبر في العالم العربي، «الإخوان المسلمين»، تجاه المسألة الديموقراطية، على أساس أن الصورة الإيجابية الشائعة للحزب التركي مرتبطة بهذه المسألة. والسؤال مثار الآن بتأثير حدثين أحدهما نجاح «العدالة والتنمية» في تعديل الدستور، والثاني بث مسلسل «الجماعة» في عدد من القنوات التلفزيونية. وعلى رغم وجود فروق عدة بين «الإخوان» و «العدالة والتنمية»، ربما يكون الفرق الأهم في أن الأخير أقدر على الاجتهاد والتوفيق الخلاَّق بين ما لا يمكنه تجنبه وما لا يستطيع قبوله. فإذا كان ل «العدالة والتنمية» من دلالة بالنسبة إلى حال «الإخوان»، فأهمها في القدرة على التنظير والتجديد. وتكمن، هنا، إحدى أهم مشاكل «الإخوان» في تاريخهم، وحاضرهم. وهذه مشكلة مزمنة ما زالت تضعف قدرتهم على طرح رؤية واضحة للمستقبل. وكانت المحن التي توالت عليهم منذ حل الجماعة في مصر للمرة الأولى عام 1948، في أحد أهم جوانبها، نتيجة ضعف قدرتهم الاجتهادية. وكان اللجوء إلى العنف، في غياب رؤية واضحة للعلاقة بينه وبين العمل السلمي، نتيجة عوامل بينها هشاشة القدرة التنظيرية. حدث هذا في التاريخ. ويمكن أن يحدث ما لا يقل خطراً عنه في المستقبل إذا ظل ضعف قدرة «الإخوان» على الاجتهاد والتنظير عائقاً أمام بلورة موقف مستقيم تجاه الديموقراطية وقضايا أخرى. ولذلك تعتبر تجربة «العدالة والتنمية» تجربة معقولة، وإن لم تكن رائعة، يمكنهم الاستفادة منها بدءاً باستيعاب دروسها. صحيح أن «العدالة والتنمية»، الذي يمثل التيار الإسلامي الأقوى في تركيا الآن، ليس مثالاً يُحتذى به على صعيد المسألة الديموقراطية بالمطلق. ولكنه يمكن أن يكون كذلك بالنسبة إلى جماعة «الإخوان» التي ما زالت متأخرة عنه بمسافة بعيدة. فنحن إزاء حزب إسلامي سياسي لا مثيل له حتى الآن في منهجه المعتدل ونزعته العملية وميله إلى المرونة في كثير من الأحيان. كما أن موقفه تجاه قضايا الحريات العامة والشخصية مشهود، على رغم تأييده حجاب المرأة وعمله الدائب من أجل توسيع انتشاره من دون أن يمنعه ذلك من احترام النساء السافرات وترشيح عدد منهن على قوائمه الانتخابية. غير أن هناك فرقاً ينبغي ألاّ يغيب بين أن يكون «العدالة والتنمية» أكثر ديموقراطية من أي حزب إسلامي آخر في ما نعرف حتى الآن، وبين أن يكون حزباً ديموقراطياً. فأن يكون هذا الحزب الأكثر ديموقراطية في أوساط الإسلاميين، فهذا مما لا شك فيه اليوم. ولكن لكي تكون ديموقراطيته غير قابلة للارتداد والتراجع، فهذا يقتضي إيماناً لا لبس فيه بأن ديكتاتورية الغالبية لا تختلف من حيث المبدأ عن الاستبداد الفردي أو طغيان قلة حاكمة. وليس هناك ما يدل على أن «العدالة والتنمية» يؤمن بديموقراطية غير قابلة للتحول عبر الممارسة إلى ديكتاتورية الغالبية، لأن رؤيته لعملية الانتخابات في النظام الديموقراطي يمكن أن تفضي إلى مثل هذه الديكتاتورية. لذلك ستكون الأشهر المقبلة اختباراً تاريخياً لهذا الحزب الذي نجح في تعديل الدستور لتقليص دور المؤسستين القضائية والعسكرية في الحياة السياسية. وهذا تعديل مفتوح على احتمالين مختلفين أشد الاختلاف. فهو يتيح فرصة لتحرير النظام السياسي من سطوة بعض المؤسسات التي سبق أن عرقلت التطور الديموقراطي. ولكنه يمكن أن يقود أيضاً إلى سطوة جديدة يمارسها حزب «العدالة والتنمية» والمؤسسات الدينية المجتمعية التابعة له والمرتبطة به. وسيكون الدستور الجديد الذي يصر عليه هذا الحزب اختباراً كاشفاً، بدءاً من طريقة إعداده ووصولاً إلى محتواه. فالدستور الديموقراطي لا يوضع في غرفة مغلقة في برلمان يسيطر عليه حزب واحد، بل عبر هيئة تأسيسية تمثل مختلف الأطياف وتؤدي دورها تحت سمع وبصر الجمهور وتطرح القضايا الأكثر إثارة للخلاف لنقاش عام. وفرق كبير، أيضاً، بين دستور «يُفَّصله» حزب حاكم على مقاسه وكأنه وثيقة حزبية، ودستور تشارك الأحزاب المختلفة والمجتمع المدني في إنضاجه. سيكون هذا اختباراً كاشفاً فعلاً لمدى ديموقراطية «العدالة والتنمية»، الذي ظهر في أكثر من مناسبة أن قادته يظنون أن حصوله على الغالبية يجيز له احتكار السلطة ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وأن التفويض الانتخابي هو تفويض مطلق وليس نسبياً. ويعني ذلك أنه لا يحترم اثنين من أهم مبادئ العملية الديموقراطية، بل المبدأين اللذين لا تكون هذه العملية ديموقراطية حقاً في غيابهما، وهما التوافق الوطني على القضايا الكبرى، ونسبية التفويض الانتخابي ومحدوديته زمنياً وموضوعياً. ويقضي المبدأ الأول بأن تكون معالجة القضايا الكبرى، خصوصاً تلك التي يوجد انقسام عميق في شأنها، فضلاً عن قضايا الأقليات، عبر توافق وطني عام يقوم على حلول وسط، وليس من خلال موقف أو برنامج الحزب الحاصل على الغالبية. وقد كشف الحزب التركي نفوره من هذا المبدأ عندما أصر على أن يكون رئيس الجمهورية من بين قادته، إلى جانب رئيس الوزراء، ورفض الحل الوسط الذي يقضي بالتفاهم على شخصية توافقية تكون موضع رضاء من مختلف أو معظم الأحزاب. أما المبدأ الثاني فهو أن التفويض الانتخابي تفويض نسبي وليس مطلقاً، وجزئي وليس شاملاً، ومحدود وليس كاملاً، لأنه إذا لم يكن كذلك أنتج سلطة مطلقة تناقض طبيعة الممارسة الديموقراطية. وليس هناك ما يدل على أن الحزب التركي يؤمن بذلك. وعندما رفض أردوغان فكرة الحكومة الائتلافية، وأصر على احتكار مواقع السلطة كلها من دون توافق وطني، كان هذا مؤشراً على أنه يعتبر التفويض الانتخابي مطلقاً وليس نسبياً. وهو – هنا – يبدو كما لو أنه يؤمن فعلياً بمبدأ البيعة معدلاً وقد أخذ صورة الانتخاب الديموقراطي. ولذلك فإذا كانت الطبقات الشعبية والفئات الدنيا تؤيده في معظمها، فجزء كبير من الطبقة الوسطى يخشاه ويخاف على مستقبل تركيا من توجهاته التي ما زال بينها وبين الديموقراطية الكاملة مسافة غير قصيرة. غير أن المسافة التي تفصله عن «الإخوان المسلمين» تبدو أطول. ولذلك قد يكون تطورهم في الاتجاه الذي يقصر المسافة التي تفصلهم عنه نقلة كبيرة في موقفهم تفتح طريقاً جديداً أمام المستقبل... مستقبلهم، ومستقبل التطور الديموقراطي في بعض البلاد العربية التي أصبحوا رقماً أساسياً في معادلاتها السياسية.