في العام 1985 راج حديث كثير عن فشل تجارب الترجمة الآلية وصناعة الروبوت. تخلى علماء عن التركيز على «الرمز»، متوجّهين إلى النظام «الترابطي» الذي يعتبر ان العمليات الذهنية تأتي من التفاعل بين وحدات صغيرة مترابطة في ما بينها، وأنها تتحرّك من دون أن يكون لها «مركز» أساسي يسيطر عليها، مُعتبرين هذا النظام الشبكي الصورة التي تُشبه عمل وظائف الدماغ. وربط هؤلاء العلماء بين هذا الأمر وإملاءات ربما لا يصعب التفكير بها، كالتحفيز على التفكير بالروابط بين الأشياء، وهو أمر متواضع وممكن، بدل محاولة الوصول الى «تفسير شامل» للأمور بعللها وأسبابها ومنشآتها. المهم هو الروابط والاتجاهات العامة للأشياء والعلاقات بين الظواهر التي تتوافر كميات كبيرة من البيانات الضخمة عنها. لنفكّر في العلاقات في اللحظة الحاضرة، صار التفكير الشبكي شديد القوة، كتوجّه فكري في فهم الأشياء والظواهر. وحاضراً، ينصح علماء المعلوماتية بالتركيز على العلاقات وشبكاتها، بدل محاولة التفكير في «أصل» مشترك لتفسير الظواهر كلها. وشهد العام 2013، فورة نقاش في النظرة الشبكية للأمور، مع صدور كتاب أخيراً في أميركا بعنوان «البيانات الكبيرة: ثورة تغيّر طريقة عيشنا وعملنا وتفكيرنا» Big Data: A revolution that would Change the Way we Live, Work & Think للبروفسور كينيث كروكر. ورأى كروكر أن الشيء الذي يستفيده الفكر البشري الآن من هذا التدفّق الهائل في المعلومات، يتمثّل في التركيز على فهم شبكة العلاقات وتفاعلاتها، وليس البحث عن جذور للمسائل والظواهر. وشدّد كروكر على وجود 3 طُرُق في التفكير، هي: 1- ضرورة هجران الدقّة لمصلحة التشديد على أهمية الخطأ ووجودهGet Rid of Accuracy. لا نكران للخطأ، بل الأهم وضعه دائماً في الاعتبار والتفكير بأنه موجود فعليّاً. 2- وضع الجهد باتجاه تجميع المعلومات والمزيد منها، ووضع المعلومات المتراكمة موضع الاستخدام اليومي والمستمر، Collect & Use a Lot of Data، خصوصاً مع تفتح آفاق واسعة في الحصول على المعلومات وتنويعها وتجميعها وتخزينها، وبكلفة تتدنى باستمرار. 3- التركيز على فهم العلاقات والروابط والميول بدل التشديد على البحث عن الأسباب والعلل Give Up On Causes- Accept Correlations! ربما بدا غريباً لكثيرين أن يتّخذ التقدّم الأكثر قوّة في العلم، مدخلاً للمناداة بالقول بضرورة هجران الدقّة. لعل الكلام يبدو مؤلماً لمن يتخذ العلم ملاذاً، وليس لمن ينظر إليه باعتباره تجربة فوّارة وتحدياً دائماً وتمرّداً لا يهدأ. لنترك جانباً أولئك الذين دأبوا على أن يكونوا «مأخوذين» بالعلم بمعنى أن ينظروا إليه بوصفه شيئاً مُطلقاً ومتعاليّاً ومتساميّاً وغيره من الألفاظ التي تشي بنوع من إسقاط مطلقات دينية على العلوم، بدل احترام وقوفها ضمن حدود العقل الإنساني، وعدم إدعائها أنها مقدّسة ولا مُطلقة. الفرد يفوق مكتبة الاسكندرية في كتاب «البيانات الكبيرة»، ذكّر كبار اختصاصيّي المعلوماتيّة في أميركا، بأن الفرد المتوسط يملك من المعلومات حاضراً، ما يفوق محتويات مكتبة الإسكندريّة في عزّها أيام العصر الروماني الغابر، عندما نُظُر إليها أنها المكان الذي يحتوي الفكر الإنساني كلّه! ليس مجرد ما يفوق تلك المكتبة الأسطورية، بل يتجاوزها بعشرات الأضعاف. ويشير هؤلاء العلماء إلى أن الملمح الثاني المهم في عصر البيانات الكبيرة، يتمثّل في أن هذه المعلومات باتت كلها تكتب ب «لغة» واحدة هي لغة الكومبيوتر الرقميّة المؤلّفة من ثنائي صفر وواحد. تكتب بلغة الكومبيوتر الرقميّة الإلكترونيّة الأشياء كلها: الكتب والنصوص والأفلام والفيديو والأغاني والموسيقى والخرائط والمكالمات والمحادثات والبريد ومحتويات شبكات الاتصالات وما يكتبه الناس على شبكات التواصل الاجتماعي وغيرها. إذاً، ما هو مكان الخطأ في هذه الصورة؟ هل يمكن تجنّبه؟ الأرجح لا. لم يعد وجود الخطأ هو المهم، بل صار متوقّعاً أن يكون موجوداً في عوالم معرفة متحرّكة باستمرار، وتأتي من مصادر فائقة التنوّع، وهذه أشياء تضمن ثراءها. المهم هو التحسّب لئلا يفسد الخطأ المنظومة الكبيرة من المعلومات. ويحرص الكتاب على تحريض العقول على هجر تقاليد الاحصاءات الدقيقة المهجوسة بشغف التخلّص من مصادر الخطأ، لمصلحة عدم الخوف من الخطأ، بل التركيز على أوسع تنوع من المعلومات، وأقصى درجات التعدّد، والحرص على الحصول على الثراء في المعلومات، والبحث عن الأصوات كافة.