في عصر سيطرة الشاشة وثقافة الصورة المرئية - المسموعة، يصعب التغاضي عن قوة حضور صورة الكومبيوتر والشبكات الرقميّة تأخذ العقول وتستولي على المخيّلات، على الأغلب لأنها تظهر بأنها رديف لقوة العلم ودقّة المعلومات ورهافة تفاصيلها. وترتسم في أذهان الشبيبة المعاصرة، خصوصاً في العالم العربي، صور عن أيادٍ متفوّقة في دقّتها العلميّة، تستطيع أن تفعل أشياء خارقة. يحلم الشباب بأن يكون «هاكر» Hacker كي لا يصمد كومبيوتر أمام قوة عقله ودقّة تنظيم معلوماته. تسود بين أوساطه تسمية ك «نِرد» Nerd، وهي تسميّة تشير إلى أفراد تصل دقّة معلوماتهم إلى حدّ أنها تشبه السِحر. وفي سياق مماثل، تأتي صفة «جيك» Geek، التي ترسم صورة من أدار ظهره للطرق العادية في العيش، وبات منبوش الشعر وبنظارة ثخينة وأحياناً بجسد مترهل، كي يتفرّع لتنمية دقة مهاراته في الكومبيوتر. إنسَ كل هؤلاء: هكذا ينصح خبراء زمن البيانات الكبيرة. فتش عن اللهو. اندفع خلف الرغبة في سماع أضخم تنوّع ممكن من الآراء والأفكار والأقوال، ولا تهتم بمدى الدقّة. لا تكن دقيقاً، كن حاضراً ومتفاعلاً مع الأشياء والناس. ينصح خبراء عصر البيانات الكبيرة الشباب باكتساب 3 مهارات أساسية، يفضل أن تسير سويّة وبتفاعل مستمر، وهي: 1- ضرورة هجران الدقّة لمصلحة التشديد على أهمية الخطأ ووجوده Get Rid of Accuracy. لا نكران للخطأ، بل الأهم وضعه دائماً في الاعتبار والتفكير بأنه موجود فعليّاً. 2- وضع الجهد باتجاه تجميع المعلومات والمزيد منها، ووضع المعلومات المتراكمة موضع الاستخدام اليومي والمستمر، Collect & Use a Lot of Data، خصوصاً مع تفتح آفاق واسعة في الحصول على المعلومات وتنويعها وتجميعها وتخزينها، وبكلفة تتدنى باستمرار. 3- التركيز على فهم العلاقات والروابط والميول بدل التشديد على البحث عن الأسباب والعلل Give Up On Causes- Accept Correlations! ربما لا يعجب كثيراً من العقول في عالم العرب هذا الكلام في هذا الكتاب الذي تجدر ترجمته إلى اللغة العربيّة لأنه ينطق بلحظة العيش الحاضر مع تلمّس جريء للمستقبل. ربما بدا غريباً لكثيرين أن يتّخذ التقدّم الأكثر قوّة في العلم، بل دقّة أيضاً، مدخلاً للمناداة بالقول بضرورة هجران الدقّة. لعل الكلام يبدو مؤلماً لمن يتخذ العلم ملاذاً ومهرباً، وليس لمن ينظر إليه باعتباره تجربة فوّارة وتحدياً دائماً وتمرّداً لا يهدأ. لنترك جانباً أولئك الذين دأبوا على أن يكونوا «مأخوذين» بالعلم (على طريقة تذكّر الانجذاب الصوفي التقيّ، وهو أمر مفهوم دينياً)، بمعنى أن ينظروا إليه بوصفه شيئاً مُطلقاً ومتعاليّاً ومتساميّاً وغيرها من الألفاظ التي تشي بنوع من إسقاط مطلقات دينية على العلوم، بدل احترام وقوفها ضمن حدود العقل الإنساني، وعدم إدعائها أنها مقدّسة ولا مُطلقة.