لا يزال الكلام موصولاً بموضوع مقال الجمعة الماضي... مقاومة ثقافة القطيع، وتحصين العقل من الاختطاف، كأني ببعضهم قد فهم من المقال التحريض على أن يقصد المرء مخالفة السائد حتى يقال: إنه مستقل، وأن يسيء الظن في كل حبل وصالٍ يمده الناس إليه تعاوناً على البر والتقوى، فيسارع إلى قطعه خشيةَ أن يُختطفَ عقله ويؤدلجَ فكره ويُضم إلى جموع القطيع! كل هذا من الفهم المغلوط الذي لا يحتمله المقال، وقد يتصنعه بعضهم بقصد التشويش على الفكرة وإظهارها بالوجه القبيح المستخبث. إن ما ندعو إليه ونحث عليه الشاب ألا يتبنى فكرةً ولا يتخذ موقفاً إلا عن قناعة محصّنة بالحجة والمنطق، سواءً أوافقَ الناس أم خالَفهم، فإذا كان معه الحجة الراجحة والمنطق الصحيح فلا تحرجه - بعد ذلك - الموافقة، ولا تضيره المخالفة، بل لا يمكنه أن يتحرر من شخصية (الإمّعة) إلا بهذا، حينها سيحسن إذا أحسن الناس، ولن يسيء إذا أساءوا. من المتعين تحرير مفهوم القناعة والحجة والمنطق؛ إذ كلٌ يدعي أن مواقفه وتصرفاته وأفكاره مبنية على قناعته الخاصة التي لم يُملها عليه أحد، وأنها مؤصلة بالحجة والمنطق، ويدعي أنه لم يوافق هؤلاء أو أولئك إلا بعد سماع منطقهم وحجتهم، غير أن هذا وحده لا يضمن له سلامة الموقف، ولا اعتدال المنهج ولا تجرّد النظر والحكم، ذلك أن كونك لا تسمع إلا حجةَ طيفٍ واحد، ولا تقرأ إلا خطابه، ولا تسمع إلا ما ينكره هذا الطيف فحسب، يجعلك تنساق إليه بالضرورة، منخدعاً بحجته وخطابه، متأثراً بعاطفته. فلا بد إذاً من النظر في حجج الأطياف الأخرى، فقد تجد فيها ما هو أقوى وأظهر حجة، أو أجوبةً تُضعف حجج ذاك الطيف، أو تُسقطها برمّتها. والدليل لا يعرف قوته من ضعفه إلا بموازنته بأدلة القول المخالف، وهذا معلوم بداهةً في فقه الخلاف؛ إلا أن بعضنا يجهله، أو يتجاهله ليربي النشء على ثقافة القطيع والتجميع والأدلجة. كذلك من حيث التنظير: كلنا متفقون على أن القطعيات محكمةٌ ليست كالظنيات، وأن المخالف في الظني المحتمل لا يعامل معاملة المخالف في القطعي المحكم؛ حتى غدت هذه من البدهيات التي لا نقف عندها طويلاً؛ لكن تعال ننتقل من التنظير إلى التطبيق، تجد خلطاً عجيباً بين الظنيات والقطعيات، فنُلبس الأولى لَبوس الأخرى، ونعامل المخالف في الظني كما لو كان مخالفاً في أمر قطعي، من خلال مصادرةِ حقه في المخالفة، والتأليبِ عليه، ورميِه بكل نقيصة، ومحاولةِ إسقاطه بكل سبيل. إن من حقك - أخي - أن تنكر عليه بلسانك اعتباراً لمخالفته الدليل الذي تراه، هذا حق لا يصادر؛ لكن ليس لك أن تجرِّده من ثياب الديانة والعدالة من أجل مسألة يسوغ فيها الخلاف، فضلاً أن تمارس معه ما تمنع منه المروءة إن لم يمنعك منه وازعك الديني، ومن المؤسف حقاً أن تجد من بعض الكفار من المروءات في الخلافات والنزاعات ما لا تجده عند بعض المتديِّنة! التعصب هو الآخر مشكلة تزجك في محيط ثقافة القطيع من دون أن تشعر أحياناً... في كلياتنا الشرعية يُدرَّس الفقه مقارناً فتعرض الأقوال وتُبسط الأدلة، توصُّلاً للقول الراجح بدليله؛ ليتعود الطالب على المقارنة بين الأقوال ومناقشةِ الأدلة والتمرُّسِ على منهج صحيح في الترجيح؛ لكنه يتخرج وقد ازداد تعصباً لمذهبه أو رأي شيخه ومدرسته الفقهية؛ لأنه درس مع ذلك الفقه المقارن التعصبَ في الترجيح، فالرد لم يكن بمنهجية أخلاقية سليمة، التجهيل للمخالف في الخطاب ظاهر، ولغة العاطفة تلعب دورها المؤثر، وخطاب الترجيح فيه معنى الجزم والقطع بالصواب، وقد تلمس إعذاراً لخلاف من خالف من السلف في المسألة؛ لكنه مُحجّرٌ عن أن يسع لإعذار من خالفَ من الخلف والعلماء المعاصرين، ولا تجد تفسيراً منطقياً لهذا التعامل المزدوج! إذا كانت المدارس الفقهية تعددت وتنوعت في عهد الصحابة والسلف، فإن محاولة أطر المجتمع على مدرسة فقهية واحدة هو من الوصاية الممجوجة التي لم يأذن بها الله تعالى، ومن حق المجتمع أن يخلع عنه تلك الوصاية، فإن كان ولا بد فاعلاً فليسعها بيته؛ حيث ولايته وقوامته. * أكاديمي في الشريعة. [email protected] @ samialmajed