بعد عبور ممر مليء بالمظلات المزودة بأطراف سامة، ومسدسات مزروعة في أقلام احمر الشفاه وأزرار تخفي كاميرات صغيرة، يسع زائري معرض واشنطن الدولي للجواسيس إلقاء نظرة على أداة مألوفة في الحياة اليومية انضمت أخيراً إلى «عتاد» التجسس: كمبيوتر محمول، «لابتوب» أسود اللون. صاحب هذا الجهاز يقول إنه شن بواسطته هجمات عزلت موقع ويكيليكس من الخدمة، واستخدمه 3 سنوات لتعطيل نحو 200 موقع «جهادي»، وتطوير أدوات قرصنة إلكترونية حساسة. ويرى مدير المتحف، بيتر ايرنست، ان اللابتوب هو من عناصر عالم التجسس ومجتمع الاستخبارات في عصر مكافحة الإرهاب الرقمي. لكن مالك اللابتوب يزعم انه لا ينتمي الى مجتمع الاستخبارات ولا الى اجهزتها، وينفي صفة الجاسوس عن نفسه. فهو قرصان مستقل و«وطني». اسمه الحربي هو «ذي جستر» (المهرج)، وفي بعض الدوائر الرقمية ارتقى الى مصاف الأسطورة. ويرى المحلل الأمني تي. جي أو كونور، ان جستر- المهرج اثبت قدرة الفرد المفرد إفراد البعير على شن حرب رقمية شعواء حسِب المراقبون الى وقت قريب انها حكر على اجهزة الاستخبارات أو مجموعات الجريمة المنظمة. وهوية جستر مجهولة وهي طي الكتمان، وهو يعلن انه اميركي يجيد برمجمة الكمبيوتر، ويرغب في شن هجمات قرصنة على اعداء بلاده بعد انتهاء خدمته في الجيش الأميركي. أول ظهور له كان مطلع كانون الثاني (يناير) 2010، بواسطة تغريدة على «تويتر» تعلن شن هجمات رقمية متقطعة على موقع حركة «طالبان». وعلى منبر «تويتر»، يميط جستر اللثام عن «إنجازاته» في القرصنة ويعدد أسماء المواقع التي «أسقطها». يتجنب الكلام مع الصحافيين، والمقابلات معه قليلة. وفي تموز (يوليو) الماضي، راسلتُه على «تويتر»، وطلبت مقابلته فوافق على الإجابة عن اسئلتي في دردشة مشفرة. لكنه اختفى ولم أنجح في الوصول إليه الا بعد اشهر، فرفض الكلام. الأسبوع الماضي، حاولت الاتصال به، فسارع الى الجواب وقال «(امهلني) لحظة لأنقل المحادثة الى خط آمن». وقال ان القرصنة هي تتمة خدمته العسكرية، وإن اجهزة اللابتوب ستتربع يوماً ما محل بنادق «أم-16»، وتتصدر ادوات الحرب. فالحرب في المستقبل القريب لن تشنها قوات برية بل ستشن من وراء شاشات متوهجة في أقبية مظلمة، كما يقول. وعلى رغم نفيه أي صلة بأجهزة الاستخبارات والأجهزة الأمنية، نجا جستر من ملاحقة القضاء. وهذا انقض على قراصنة مجموعة «انونيموس»، وادعى عليهم. وشطر راجح من أهداف جستر أو ضحاياه يناصب السياسة الخارجية الأميركية العداء. ويبدو ان الاستخبارات الأميركية تغض النظر عن انشطته، أي عن الهجمات على اعدائها. ولكن هل يزود جستر السلطات الأميركية بالمعلومات؟ «أنشرُ من حين الى آخر معلومات، وأضعها حيث يمكن بعضهم ان يجدها»، يجيب. وفي 2010، حين نشر ويكيليكس وثائق سرية من وثائق الخارجية الأميركية، شن هجوماً على الموقع، وأغرقه بسيل من المعلومات النافلة والتافهة، وأخرجه من الخدمة. وفي 2011، اجتاح موقع كنيسة «وستبورو بابتيست» رداً على مقاطعتها جناز جندي اميركي سقط في ارض المعركة. وفي الشهر الماضي، هاجم مجدداً موقع وستبورو، اثر ترحيبه بالإعصار الذي ضرب اوكلاهوما واعتباره عقاباً إلهياً على خطايا اميركا. وإثر قتل «جهاديين» جندياً بريطانياً في لندن في 26 أيار (مايو) المنصرم، برزت دعوات الى سن قوانين تحظر مواقع المتطرفين. فاستبق جستر التشريعات، وأسقط موقع الداعية الإسلامي المتطرف، أنجم شودري. ونشر اسماء بعض ناشطي «انونيموس»، فبادرت السلطات الى اعتقالهم. على وجه المعمورة كلها، يقوم أمثال جستر من القراصنة المستقلين بأعمال «ملتزمة» سياسياً، أوجه الشبه بينها وبين انشطة الاستخبارات والحرب الإلكترونية، وثيقة. ويرى ريتشرد بيتليتش، المدير الأمني في شركة «ماندينت» للأمن الرقمي، ان القراصنة الإلكترونيين يحيون تراثاً من الجاسوسية عمره آلاف السنين. ففي الماضي عرف العالم افراداً يمتهنون الجاسوسية طوعاً. ولكن، في بداية القرن العشرين، بدأت الحكومات تنشئ مؤسسات استخباراتية، وتدشن صناعة الجاسوسية. واليوم، بدأت كفة القطاع الخاص ترجّح في عالم الاستخبارات، إثر شيوع التكنولوجيا. وبروز جستر وناشطي «انونيموس» هو مرآة تغيّر عالم القرصنة والأمن الرقمي في العقدين الأخيرين. فعلى خلاف قراصنة اليوم الذين لا يتسترون على دواعيهم السياسية ومواقفهم، كان القراصنة في التسعينات، يشنون هجمات صغيرة على سبيل التسلية. يومها، كان الكلام على القرصنة الإلكترونية كأداة حربية جيو- استراتيجية من بنات روايات الجواسيس الخيالية. فعلى سبيل المثل، أذاع الصحافي المتخصص بشؤون التكنولوجيا، جون غانتز، خبر ابتكار مجلس الأمن القومي فيروساً إلكترونياً يطيح دفاعات صدام حسين الجوية من غير اطلاق صاروخ واحد. ولكن سرعان ما تبين ان الخبر هو كذبة نيسان(أبريل). لكن الفكرة وراء الكذبة لم تكن ضعيفة الصلة بالواقع. ففي 1999، وخلال حرب كوسوفو، أجاز بيل كلينتون حملة الكترونية ضد اهداف صربية لتجفيف مصادر تمويل الحكومة الصربية في مصارف بلادها. والحملة هذه شرّعت الأبواب امام توسل القرصنة الإلكترونية في الحرب «الساخنة». وأظهر فيروس «ستاكسنت» أن خبر غانتز لم يجافِ الواقع وكان نافذ البصيرة. فالفيروس حاكى نسخته الخيالية «الغانتزية»، وأصاب منشأة نتانز النووية، وهي غير موصولة بالإنترنت، بواسطة اداة «ملوثة» نجح المخربون في تهريبها. ففي موازاة توسل الحكومات الحرب الإلكترونية، برز نازع الى «دمقرطة» القرصنة إثر ذيوعها بين الناس العاديين. ولم تعد قرصنة حساب بريدي أو مهاجمة موقع الكتروني تقتضي خبرات تقنية. ففي مقدور صاحب بطاقة اعتماد استئجار خدمات مقرصن في مقابل دولارين في الساعة. وفي 2012، اعلنت شركة كاسبرسكي الأمنية الروسية كشفها عملية استخباراتية رقمية كبيرة سمتها «أكتوبر الأحمر». وكانت نار هذه البرمجيات الخبيثة «الحمراء» تعسّ منذ 2007، وتسرق المعلومات من هواتف الديبلوماسيين المحمولة وأجهزة الكمبيوتر الخاصة بهم والمؤسسات الحكومية ومراكز الأبحاث. ولم تفلح كاسبرسكي في اثبات وقوف إحدى الحكومات وراء الهجمات التي خلصت الى انها قد تكون من أعمال قراصنة مستقلين. وقد يبيع القراصنة خدماتهم لها. وسوق العرض والطلب على القرصنة مشرّعة الأبواب. وفي وسع انظمة الاستبداد الغنية التي تفتقر قدرات استخباراتية الكترونية، على غرار الحكومة الأنغولية، أن تستعين بشركات خاصة للتجسس على المعارضين. ويقابل بروز دور القراصنة بروز الشركات الخاصة التي تساعد ضحايا القرصنة على حماية انظمتهم. وصارت هذه الشركات شأن القراصنة المستقلين، لاعباً بارزاً في الساحة الجيو - استراتيجية. وفي تشرين الأول 2012، نشر مراسل صحيفة «نيويورك تايمز»، ديفيد باربوزا، تقريراً يفضح حجم ثروة رئيس الوزراء الصيني السابق، ون جياباو. وردت بكين على التقرير، واخترقت موقع الصحيفة من طريق اغراق القرصان اياه برسائل إلكترونية مرفقة بروابط «ملوثة». وأفلح المتسللون الصينيون في انتهاك حسابات البريد وفك كلمة الدخول الى 50 جهازاً من أجهزة كمبيوتر الصحيفة. وأبلغت «نيويورك تايمز» «أف بي آي» بالخرق، لكن محققيه اخفقوا في «طرد» المتسللين. فلجأت الصحيفة الى خدمات شركة «مانديانت» الخاصة، التي أسسها في 2004 كيفن مانديانت، وهو محقق سابق في قسم الجنائيات الرقمية التابع لسلاح الجو الأميركي. وشطر راجح من موظفي الشركة، محللون سابقون في وكالات حكومية للأمن الإلكتروني. وإثر كشف «نيويورك تايمز» الخرق الإلكتروني، لم تنقض «مانديانت» على المتسللين على الفور، بل راقبت حركتهم في انظمة الصحيفة ودرست خطواتهم قبل ان تطردهم. ونموذج مكافحة الاستخبارات «العادي» هو الأمثل. ففي معظم الأحيان، يكون الخصم مسؤولاً سابقاً في استخبارات اجنبية. ويوم نشرت «مانديانت» تقريراً مفصلاً عن القرصنة الصينية لشركات اميركية في شباط (فبراير) الماضي، أبرزت وكالة «اسوشيتد برس» أهمية الوثيقة، وسلطت الضوء على ان اهميتها مردها الى صدورها عن شركة امنية خاصة من غير دعم عسكري أو استخباراتي أميركي، أي من غير دعم الأجهزة المسؤولة عن حماية اميركا من الهجمات الإلكترونية. * صحافي، عن «نيوزويك» الأميركية، 3/6/2013، إعداد منال نحاس