راج في العالم ما يمكن تسميته بأضغاث الأحلام عن مستقبل مأمول. وقد عرفت مصر هذا الحلم بجعل مصر قطعة من أوروبا منذ عهد الخديوي اسماعيل. ولم يكن هذا الحلم وفقاً على الخديوي وبطانته، فقد دافع عنه وواصل الدفاع عنه في أزمنة لاحقة مثقفون مرموقون. وبدا لبعض هؤلاء أن نقل مظاهر المدنية الفرنسية من نظم بيروقراطية إدارية وتعليم جامعي وتمثيل مسرحي وأجناس أدبية وفنية وعادات في الحياة اليومية والعلاقة بين الرجال والنساء أمر فوري ميسور يعتمد على حسن النية في التنفيذ. كما بدا لبعض آخر أن نقل مظاهر المدنية البريطانية والفكر الأنغلوسكسوني هو الأجدر بالاتباع. ولم ينته الحلم بسقوط مصر أو بلاد عربية أخرى تحت نير الاحتلالين البريطاني والفرنسي. وظل الأمل في المستقبل رهناً بمحاكاة النظم المتمدينة في أوروبا اقتصادية وسياسية وثقافية حتى قبل أن توجد القوى الاجتماعية (الطبقية) والإيديولوجية القادرة على التنفيذ والاستمرار. وأضغاث الأحلام جميلة بقدر ما تكون وهمية، وتقترب أن تكون قصوراً في الهواء. والآن يروج الحلم باسترجاع الخلافة. ويعتمد الحلم عادة على التمسك بمقدسات وذكريات ماض مجيد وبحضارة كان لها دور تاريخي عظيم يرتفع فوق دور الحضارات الأخرى قاطبة. ولكن أشهر أضغاث الأحلام وأكثرها رواجاً كان الحلم الأميركي. وهو ادعاء أن النظام «الحر» المتمشي مع المسيحية التي مثل معظم الأديان لم تُحرم الرق، يتيح لأي فرد بصرف النظر عن أصله الطبقي أن يصير ميلونيراً ومشاركاً في الحلم اعتماداً فقط على عمله وجهده واتقانه لهذا العمل ونجاحه فيه. وكان هذا الحلم ظاهر النجاح، فالولاياتالمتحدة تقف على رأس بلاد العالم في الإنتاج والقوة العسكرية، وهي المثل في الديموقراطية العريقة عند بعض الليبراليين في العالم العربي، والموزع المعتمد للديموقراطية في العالم كما تدعي ويدعي أنصارها. أرقام مضللة ووراء هذا الظاهر المتألق حقيقة تهمس بها إحصاءات مدققة لدى المعاهد المتخصصة. وهذه الحقيقة تقول إن ما تنشره السلطات الأميركية عن معدلات البطالة ليس سوى تضليل. وتنشر منظمة العمل الدولية التابعة للأمم المتحدة إن خُمس العاملين الأميركيين يحصلون على أجور أدنى من المستوى الرسمي للفقر. وتصرخ الحركة الاحتجاجية «احتلال وول ستريت» في نيويورك أن ما لا يزيد على 1 في المئة من السكان هم الذين يتحكمون بالاقتصاد والسياسة وأن 99 في المئة من السكان محرومون تماماً من المشاركة في صناعة القرار. وأيام الحرب الباردة انتشر حلم سمى نفسه اشتراكياً في العالم العربي يرتكز على اقتصاد مركزي أوامري مخطط لمصلحة امتيازات أقلية بيروقراطية وسيطرة سياسية لحزب واحد وغياب للحريات الديموقراطية لفظ بعض أنفاسه مع هزيمة 1967 ثم مع سقوط الاتحاد السوفياتي ومنظومته، ويظل يعاني من الضعف. وفي أيام الخلاف الصيني السوفياتي مالت قلة من اليساريين العرب إلى الجانب الصيني، وعلى الأخص في بعض المنظمات الفلسطينية وفي جنوب اليمن وروجوا للحلم الصيني. أما الآن في عصر الأزمة الرأسمالية فتبزغ بلاغيات ما يسمى الحلم الصيني وتنتشر منذ استعمالها من جانب الرئيس الجديد الحالي للصين. وتدعي الصين أن هذا الحلم مفيد لبلاد كثيرة وخصوصاً في آسيا. وعبارة الحلم الصيني استعملت للمرة الأولى في مجلة «نيويورك تايمز» الأميركية في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي عند تغطيتها وصول الرئيس الصيني الجديد إلى السلطة. فقد نشرت المجلة زاوية بقلم توماس فريدمان عنوانها «الصين تحتاج إلى حلمها الخاص». ونشرت الجرائد الرسمية الصينية ترجمات لها وراجت مناقشة هذا الحلم الصيني داخل الصين وخارجها. حقاً إن هذا الحلم ليس هو الحلم الأميركي، فماذا يكون؟ إنه غامض، فالرئيس الحالي متمسك بالتوجهات التي أرساها الرؤساء السابقون، ومضطر إلى الالتزام بالخطة الاقتصادية الخمسية التي تبناها سلفه، ومضطر إلى الالتزام بخطط الحزب الوحيد الحاكم الأبعد مدى. وهدف الحلم المعلن عموميات فضفاضة من قبيل خلق بلد غني قوي ديموقراطي متحضر منسجم اشتراكي حديث في العام 2049 عيد ميلاد تأسيس ما أطلق عليه اسم الأمة الشيوعية. و «ديموقراطي» في هذا السياق ليست معناها الرسمي التعددية السياسية أو الفكرية، فالحلم الصيني يسمح للرئيس بالالتزام بالأهداف الموروثة من حكم الحزب الشيوعي، وفي الوقت نفسه يوحي بإمكان التغيير أثناء حكمه. ودار نقاش جماهيري اتسع لكل أطراف الطيف السياسي لتحديد هذا الحلم الذي يعاني من الإبهام. وفهمه القوميون والجنرالات على أنه الإحياء والبعث، فالبلد ينبغي أن يكون مكانه الدائم أعلى قمة التسلسل الهرمي الكوكبي رغم قرن الإذلال واستعمار الصين. ويعلن المتحدثون باسمهم أنه في العام 1820 كان الناتج المحلي الإجمالي للصين وحدها ثلث الناتج الكلي العالمي، ثم حدث الانخفاض نتيجة للاستعمار. ويعلنون الآن أن هذا الناتج ارتفع إلى سُدس الناتج الكلي العالمي، وعلى الأقل 90 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة. ويتلهف القوميون على مجيء اليوم الذي يصير فيه اقتصاد الصين أكبر اقتصاد في العالم، وأن يشرق فجر ذلك اليوم والرئيس الحالي لا يزال رئيساً. والحلم الصيني حلم قومي يتعلق بعيون الصينيين وحدهم في الحقيقة رغم كل إدعاء. ويتضمن تأسيس جيش قوي من دون إقصاء للجيش عن القيادة المباشرة للحزب الشيوعي. وحاول وزير الخارجية الأميركية مصالحة الحلم الأميركي والصيني باقتراح أنه ينبغي على أميركا والصين وبلاد أخرى أن تعمل معاً لتحقيق حلم أوسع هو حلم أقطار المحيط الهادي، فما أكثر الأحلام. ولكن هذا الاقتراح لم يفعل إلا أقل القليل للحد من الحذر المتبادل بين البلدين. وصرح معلق رسمي صيني بأن فكرة حلم مشترك لبلاد المحيط الهادي هي محاولة لنشر الحلم الأميركي ولسيطرة الولاياتالمتحدة داخل كل ركن في آسيا وهي كابوس عند القوميين الصينيين. ويرى معلقون أن التقارب اللفظي بين كلمتي حلمين قد يستهدف طمأنة الطبقة الوسطى الجديدة الصاعدة في الصين، وهي التي لا تتحمس لديكتاتورية حزب شيوعي في سدة الحكم. وليست ما تسمى اشتراكية السوق الصينية نموذجاً يحتذى عند اليساريين في العالم أو الليبراليين لتحقيق العدالة الاجتماعية. وفي الحقيقة لا يوجد طريق نموذجي قائم الآن للسير فيه، وعلى كل بلد ابتكار طريقه الخاص وفقاً لتراثه التاريخي وقيمه المفضلة ومساءلته للعولمة. * كاتب مصري