تكمن إحدى المشاكل الأساسية التي يعاني منها العراق في عدم التوافق ما بين المكونات الرئيسة في البلاد، الشيعة والسنّة والاكراد. وتبنى البلد عام 2005 دستوراً فيديرالياً، لعب الأكراد دوراً كبيراً في صوغه، ويهدف الى تحويل كثير من السلطات السياسية والاقتصادية والادارية من بغداد الى المحافظات، اضافة الى جزء لا يستهان به من الريع النفطي. لكن الدستور الجديد واجه عقبتين أساسيتين: الغموض الذي اكتنف كثيراً من مواده، بخاصة التي تشير الى علاقة المركز بالمحافظات، وعدم توافر قناعة كافية عند المكون العربي (السنّة او الشيعة) بالنظام الفيديرالي، في وقت تبنى الاكراد وجهة نظر مفادها ان استمرارهم في الدولة العراقية الجديدة، يفرض تطبيق الدستور بحذافيره، خصوصاً ما يتعلق منه بشؤونهم. كما تبنوا سياسة المشاركة الكاملة في السلطة السياسية وعملية اتخاذ القرار في الحكومة الفيديرالية، لكن على رغم اهمية هذا الامر في برنامجهم السياسي، الا انه لم يكن في قمة اولوياتهم، التي تشمل أجندة متكاملة تدعو الى تأسيس اقليم كردستان، وهذا ما حصل. ووقع الإقليم نحو 50 اتفاق مشاركة انتاج مع شركات نفط عالمية لم تتعرف عليها وزارة النفط الا من خلال وسائل الاعلام، كما أنجز معظم أهدافه التنموية، في حين اخفقت بغداد في بناء بقية انحاء العراق، بل فشلت حتى في توفير الامور الاساسية للمواطن العراقي من ماء وكهرباء، ناهيك عن الأمن، ما صعد الخلافات مع اربيل. واستمر الإقليم في تنفيذ أجندته المتكاملة في وقت يستلم 17 في المئة من مجمل الريع النفطي العراقي. استمرت المفاوضات بين اربيل وبغداد رغم الخلافات الأساسية، بسبب ضغوط طهران على بغداد. لكن اتضح فشل الاتفاق فعلاً على أي من الامور الخلافية الاساسية، بخاصة النفطية منها. وصرح الرئيس مسعود برزاني الى وكالة «رويترز» في الثالث من الشهر الجاري، بأن حكومة اقليم كردستان ستكون مضطرة الى تبني «علاقات من نوع جديد» مع حكومة بغداد اذا أخفقت المفاوضات في الوصول الى حل للخلافات حول النفط والاراضي. وعلى رغم انه هدد سابقاً بالاستقلال عن العراق، الا انه أكد للوكالة ان دورة المفاوضات الحالية تشكل الفرصة الأخيرة لإنهاء الخلافات التي اخذت تشكل عقبة كبيرة أمام النظام الفيديرالي للبلاد. وأضاف: «هناك بعض المؤشرات عن بعض المرونة من قبل الحكومة المركزية (...) لكن لم نصل الى أي حلول من الناحية العملية (...) فإما الاتفاق (...) او سنضطر الى ان نفكر في نظام علاقة جديدة بين الاقليم وبغداد». لعب النفط دوراً أساسياً في المجتمع العراقي خلال نصف القرن الماضي. ويؤثر كل قرار حوله في مستقبل البلاد وسياساتها. وقد اتخذت حكومة اقليم كردستان أخيراً خطوة جريئة، بل حاسمة، في قرارها تشييد خط أنابيب لتصدير النفط الخام العراقي مباشرة من أراضيها الى تركيا، طاقته 300 ألف برميل يومياً، يربط انتاج الحقول في الاقليم بمحطة ضخ فيشخابور (الواقعة داخل الحدود العراقية بالقرب من الحدود التركية) لمنظومة خطوط انابيب كركوك- جيهان. مع العلم ان ملكية هذه المنظومة ومحطة فيشخابور تابعة للحكومة العراقية، بينما تتحول ملكية منظومة الأنابيب داخل الأراضي التركية الى الحكومة التركية. ويشكل تصدير النفوط العراقية هذه والذي يتوقع ان يبدأ في اوائل العام المقبل، خرقاً صارخاً للدستور العراقي، وقد هدد نائب رئيس الوزراء حسين الشهرستاني بمقاضاة حكومة اقليم كردستان في حال البدء فعلاً بالتصدير عبر هذا الأنبوب. ان النتائج المترتبة على تصدير النفط عن طريق الخط المباشر يعني تحدياً مهماً من الإقليم للدستور العراقي الذي طالما يطلبون بغداد به، وفي الوقت ذاته يوفر لهم قوة واستقلالاً سياسياً عن بغداد، ناهيك عن القوة المالية التي تمكنهم من الاعتماد المالي على مصادرهم من دون الاعتماد على بغداد. الا ان الشركات النفطية الدولية العاملة في الإقليم، متخوفة من القرار لأنه سيعني امتناع حكومة بغداد عن دفع نفقات الاستكشاف والتنقيب التي تطالب بها الشركات والتي تقدر ببلايين الدولارات، ناهيك عن العراقيل القانونية لتسويق النفط. ووافقت الحكومة التركية أخيراً على استخدام جزء من خط كركوك - جيهان (وهو مكون من خطين منفصلين تبلغ طاقتهما الهندسية نحو 1.6 مليون برميل يومياً)، الا ان مؤسسة تسويق النفط (سومو) العراقية لا تستعمل اكثر من نحو 450 ألف برميل يومياً في خط واحد، ويعزى سبب تردد انقرة في الموافقة الى علاقاتها مع العراق. وقد صدرت تقارير صحافية أميركية مفادها ان واشنطن نصحت حكومة اقليم كردستان بعدم المضي قدماً بتشييد الخط، خوفاً من تداعياته السياسية التي من الممكن ان تؤدي الى تقسيم العراق، لكن من الواضح ان حكومة الاقليم ماضية قدماً في تشييده، وأنهت نحو 90 في المئة منه. وهناك في الوقت ذاته تخوف في بغداد من امكان تغير علاقتها مع الإقليم جذرياً، في حال استعمال الخط العام المقبل. أصبح واضحاً من دون شك للساسة العراقيين بمختلف انتمائاتهم ومصالحهم، ان الوضع هش في البلاد، وان اوضاع المنطقة عموماً لا تسمح بالكثير من المغامرات الطائشة وغير المسؤولة. وبما ان الدستور يقضي بالفيديرالية، مع الاستفتاء على تعديل بعض الفقرات المبهمة في الدستور، فهذا يعني الموافقة على نظام جديد للحكم، بحيث لا تدار كل أمور البلاد من بغداد، كما ان الريع النفطي يجب ان يوزع على المحافظلت والأقاليم بشكل عادل. وبما ان اقليم كردستان قد تبنى خطوات نفطية مهمة، فمن الصعب التراجع عنها الآن، وعلى بغداد القبول بالأمر الواقع. كما يتوجب على حكومة الاقليم، في حال توفر الارادة للاستمرار في العراق، ان تسمح للحكومة الفيديرالية باستملاك خط الأنابيب الجديد وتسليمه الى المؤسسة الشرعية للتصدير (سومو). * مستشار لدى نشرة «ميس» النفطية